الثلاثاء، 22 ديسمبر 2020

قراءة بصرية لفكر كيستوفر نولان حول الوجود الزمني والمكاني - تقييم فيلم Tenet


 

قراءة بصرية لفكر كيستوفر نولان حول الوجود الزمني والمكاني

فيلم * عقيدة * نموذجا

( انطباع بدون حرق للفيلم  وأحداثه)

الكاتب والمخرج: هيثم سليمان

حساب الانستغرام:

@haitham.sulaiman

المدونة الإلكترونية

www.scriptcut.blogspot.com

 

يبدو أن نبي سيكولوجية الزمن كريستوفر نولان مستمر في اذهال شاشة السينما بأفلامه التي تتلاعب حكبتها بتفاصيل الزمن وهذا ليس بذي غريب على مخرج جاد لنا بعدة تحف سينمائية تطرح ذات التلاعب كمثل فيلمه  انسيبشن  وفيلمه انترستيلر ثم فيلمه ما قبل الأخير دنكيرك والذي صاغ فيه نولان حبكته جوا وبحرا وبرا في تفصيل زمني للحدث كما يحدث ولكن كما تراه عين المشاهد في تلك الفصول الزمكانية الثلاثة.

لطالما عرفنا هوس نولان بالزمن في السينما. نولان لديه فكرة رئيسية عن الزمن قام بتقسيمها على أربعة مراحل (أفلام) حيث بدأ فيلم انسبشن وفيها طرح التكوين الزمني المتضمن في الأحلام لعكسها على الواقع الذي تعيشه الشخصيات بالفيلم حيث أرسل شخصيات فيلمه إلى عمق تكوين الحلم للتغيير والتاثير في مجرى الأحداث, ثم قام بالولوج الى حذافير الربط المثير بين المستقبل والحاضر في فيلم انتيرستيلر وتبيان كيف يمكن أن يؤثر السفر الى المستقبل على حاضر الشخصيات بالتالي جميع ما يتربط بها من ذكريات وعواطف , ثم قفز الى مستوى اخر في فيلمه دنكيرك حيث اعتمد مبدأ التواطىء الزمكاني فجعل جميع شخصياته تعيش مجريات أحداث برا وجوا وبحرا في نفس التوقيت الزمني الفعلي في رائعة حربية قل أن تراها في السينما( راجع انطباع وتقييم فيلم دنكيرك في هذه المدونة)  ثم اختتم فكرته الرئيسة بالمرحلة الرابعة (الفيلم الحالي- عقيدة-) ولعب على الانعكاس الزمني مع دمجه بالمؤثر على المكان ليعرض أمام عيني المشاهد الحاضر والماضي والمستقبل في مشهد واحد ( وهذا هو التكنيك الفريد من نوعه الذي يحسب لنولان أنه بدأ به في عالم السينما في فيلم طويل). يجب أن ننتبه ايضا أن الفكرة الرئيسة لنولان حينما قسمها الى عدة مراحل عبر أفلامه فقد راعى أن يكون تسلسل تقديم الفكرة للمشاهد مدروسا قابلا للاستيعاب , حيث كانت المرحلة الاولى في انسبشن معقدة قليلا ثم جاء انترستيلر ليعطيها بعدا أخر جديد يمكن فهمه ثم بسط الفكرة أكثر في المرحلة الثالثة عبر فيلم دنكيرك ليهيأ المشاهد للمرحلة الأكثر تعقيدا وهي فيلم تيننت ...كريستوفر نولان ليس من هذا الكوكب أبدا.. هل هنالك مرحلة جديدة خامسة ضمن فكرة نولان عن الزمن ؟ من يدري كيف سيكون شكل الفيلم القادم. من أجل ذلك أقول , هذا الكاتب المخرج فوق هوليوود وفوق مستوى الأوسكار بعينه. ما الذي تنتظره هوليوود لتمنحه أوسكارا مستحقا ؟ لا أدري !! ولي أن أتعجب !

سيناريو استغرق حوالي خمس سنوات من الكتابة, وتجهيزات ضخمة لفيلمنا , فيلم "عقيدة" والذي يبدو أن نولان تحدى فيه نفسه ورفع من سقف التعقيد وبراعته في الحبكات المحكمة الى مستوى عال جدا. ولا أخفيكم القول بأن  براعة نولان ككاتب سيناريو اصبحت في مستوى واحد عندي ببراعة كاتب السيناريو كونيتن تارينتنيو بالرغم أن كلا الكاتبين ذوق ورؤية وأسلوب مختلف ولكنهما يلتقيان في حرفنة صناعة النص السينمائي.

" عقيدة" في صالات السينما بعد ظروف انتاجية تكبدها فريق المشروع الضخم الذي كلفت ميزانيته زهاء المئتين ونصف مليون دولار أمريكي رافقها الظروف المصاحبة لانتشار فيروس كرونا والذي بدوره خيب أمال الكثيرين من عمالقة الصناعة السينمائية في هوليوود. ومن السخف كل السخف أن نلوم الخرج نولان في رفضه لعرض فيلمه في منصات عرض الكترونية قبل أن يأخذ طريقه للعرض في شاشات السينما الكبيرة, لماذا ؟ بدهيا.. عندما تشهد فيلما لنولان, يجب أن تشاهده في صالة سينما لتعيش جميع تفاصيل الصوت والصورة معا وبمتعة كبيرة بالرغم من اخفاق نولان في جانب الصوت في أفلامه الأخيرة بما فيها فيلمه الحالي تقريبا ولم يكن يشفع له في هذا الجانب سابقا الا تعاونه المستمر والابداعي مع العملاق المؤلف الموسيقي هانز زايمر الذي لم يشاركه التعاون هذه في المرة في فيلم " عقيدة " هذه المرة.

ليكن في علمك كمشاهد, أن فيلم " عقيدة" يحتاج الى طقوس خاصة قبل وأثناء مشاهدته وبدونها لن تكتمل لديك الصورة الكاملة خلف عبقرية نولان وتحفته الجديدة التي قال عنها أحد النقاد " حتى نولان لا يستطيع أن يخرج هكذا فيلم". هنالك طقوس يجب أن تحملها في حقيبة دماغك وجسدك أولها التفرغ التام لمشاهدة هذا الفيلم, لا تشاهده وأنت في عجلة من أمرك , هذا فيلم في ساعتين ونيف من الزمن ليس لتقضية وقت فراغ أو استراحة مابين عدة ارتباطات أخرى. وثانيها هو دقة الملاحظة والتركيز, صدقني يا صديقي ستحتاج اليهما كثيرا لتستطيع تفكيك جمجمة نولان ثم تفيكك الأحداث وخطوطها الفرعية لتفهم اللعبة المجنونة وأخرهما أن تكون متيقنا من مشاهدته مرة أخرى وثانية وثالثة ان لم تستطع فهمه من المرة الأولى ( وهذا عمل صعب بحد ذاته نظرا لكمية المعلومات والمزيج المربك بين الحدث الدرامي والزمن كعلم).

فيلم "عقيدة" وباختصار - قبل أن نذهب الى عش الشيطان- هو فيلم يحكي قصة رجل " ذا بروتاجينيست" ضابط استخبارات امريكي سابق صاحب منظمة تسمى " عقيدة" أو تينيت   يسعى يسعى لانقاذ العالم من حرب عالمية ثالثة وكارثة بشرية مزلزلة عبر تعطيل جهاز مدمر يعمل على التفكيك الحراري للجزيئات بحيث تدور أحداث المحاولة هذه أجمعها ضمن الزمن الطبيعي والزمن المعكوس مع تدخل المستقبل كخلفية اساسية في هذه المحاولة وبوجود رجل أخر " أندريه ساتور" الشخصية النقيض الذي يحاول أن يدمر العالم بعدما اكتشف أنه مصاب بمرض السرطان فيقرر أن يفعل الجهاز ويدمر العالم معه بما فيهم زوجته التي تحاول الانتقام منه لاذلالها.

سيناريو الفيلم جدا مميز وجميل وأروع ما فيه هو حبكته المعقدة والمشوقة في أن واحد كما أن اخراج الفيلم جاء مميزا جدا ويرقى لمستوى أحد أفضل عشر مخرجين معاصرين في هوليوود ونعني هنا كريستوفر نولان. حتى مستوى الأفكار في تنفيذ الهجمات القتالية والاشتباكات داخل الفيلم جاءت بطريقة مبدعة ومبتكرة لا سيما وأن عامل الزمن الطبيعي والمعكوس يغذيها. شعور غريب غير معتا البتة بل وابتكاري أن تشاهد حركة الشخصيات ضمن محورين الأول إلى الأمام والثاني إلى الوراء وكلا المحورين مرتبط بتسلسل الأحداث .

حيث استند السيناريو على مبدأ الحدث وتكرار الحدث عكسيا ولكن في بعد زمني أخر ثم احضارهما معا في مشهد واحد يجمع الماضي والحاضر والمستقبل في ثلاثية تحتاج الى كاتب سيناريو محترف ومتمكن فعلا ,  وأتعجب كيف استطاع نولان أن يدمج هذين البعدين ( الطبيعي والانعكاسي) ضمن المشهد الواحد في نص فيلم مدته ساعتين ونيف. مجهود خرافي خارق بلا شك في كتابة هذا النص. كما انه -وكما هو معروف- أن السيناريو الذي يعتمد على تأثيث وإعادة تأثيث المشاهد حسب الفترات الزمنية المختلفة هو أحد أصعب أنواع السيناريو التي تحتاج الى انتباه وتركيز ذهني عال جدا لا سيما في نقطتين هما " لهاث الفكرة" و "الفجوات", حيث أنه لابد لكاتب السيناريو حينما يخلق حدثا يحدث في زمان ومكان ما يقابله / يتماشى معه حدث أخر في زمان ومكان مختلف/ مشابه أن ينتبه الى سد الفراغ في الفجوات التي تنشأ  من ركض عقله المتسمر " لهاث الفكرة"  لصياغة وترتيب الأحداث, وابصم باصابع يدي العشرة أن نولان استغرق وقتا طويلا في مخطط المشاهد والبحوث قبل أن يخط قلمه أول مشهد في السيناريو. وهنا لكم أن تعذروا نولان ان كان قد استغرق خمس سنوات في كتابة النص, ولا تنسو أنه كان يعمل على فيلم أخر في تلك الخمس سنوات وهو فيلم " دنكيرك", فيلمه ما قبل الأخير. عظمة وابداع من عقلية كاتب متمكن. وفي هذا السياق اسمحوا لي بتذكيركم أنه سيناريو فيلم " عقيدة " ليس هو السيناريو الأطول فترة ككتابة, فقبل هذا السيناريو كان هنالك سيناريو أخر وهو سيناريو فيلم انسبشن الذي استغرق نولان حوالي عشر سنوات لكتابته وكانت فكرة الفيلم برأسه مذ كان في السادسة عشر من عمره. إننا نتحدث عن تفرد سينمائي في عالم الصناة السينمائية. هذه هي بصمة نولان الجينية في افلامه. 

كما أن براعة نولان في جانب الممثلين حينما لجأ الى (روبرت باتينسون) كشخصية البطل الخفي الذي يدي الأحداث بطريقة غير مباشرة. حيث نرى روبرت بشخصية البطل الذي يأتي لينقذ بطلنا الأمامي (ديفيد واشنطن) في كل مرة يوشك الأخير أن يُقتل فيها؟ لماذا؟ السبب بدهي جدا ضمن قصة نولان , لو تم قتل ذا بروتاجنست(ديفيد واشنطن) لن يكون هنالك (نيل) روبرت باتينسون.                                                     

فيلم يستحق 9/10 كتقييم شخصي.

وأرشحه لأوسكار : أفضل سيناريو – أفضل إخراج – أفضل تصميم إنتاج


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أتحمل مسؤلية ما اضعه هنا