الجمعة، 21 ديسمبر 2018



الأسود لا يليق بك لعيسى الصبحي
ثمة شيء يتحرك

في خضم التساؤلات والتكهنات ما قبل وبعد اعلان نتائج مسابقة جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب أحد الجوائز التي تعتبر عالميا كبيرة ( ماديا) في العالم وليس الوطن العربي فقط كان ذهني – وأنا الذي وددت المشاركة في ذات المسابقة لولا جملة من الظروف التعسة المعتاد عليها- يتساءل عن ماهية الفيلم الذي سيتخذ طريقه الى التتويج ناهيك عن - القيل والقال- و الهرج والمرج الذي كان سائدا حول انتقاء منظمي المسابقة للجنة التحكيم – عمانيون أم غير عمانيون - تضاف إليه جدليات أخرى حول مدى الإنصاف في وضع فئتين من الأفلام ضمن جائزة واحد فقط ( الوثائقي مع الروائي) في سباق محموم لمعرفة كفة من سوف ترجح في النهاية من هاتين الفئتين.
والحق يقال , ورغم ضخامة وأهمية الجائزة , هنالك الكثير من صناع الأفلام لم يتقدموا للاشتراك في المسابقة لأسباب عديدة لكن أهمها بلا شك هو ارتباط الكثير صناع الأفلام بعقود وأعمال بصرية تجارية - لا تمت للسينما باي صلة - و ما العدد الذي تقدم من الأفلام الى باب المسابقة - 47 فيلما قصيرا- وفي خضم وجود العديد من صناع الأفلام - بغض النظر عن مستواهم فمازلنا في نهج المتردية والنطيحة نحاول جميعا أن نوجد لنا احترافية ما في الفن السابع نحو ما يمكن أن نسميه صناعة يوما ما- في السلطنة إلا دليل واضح على ما تفوهت به.
وسط هذا وذاك وترقب من المشتغلين ليس في السينما فقط وانما في الفنون البصرية الأخرى وفي حضور تسويقي باهت للجائزة في منصات التواصل الاجتماعي – الأمر الذي ربما لن يتوانى فيه الأخوة المنظمون للمسابقة في التركيز عليه مستقبلا-  كان السؤال الأبرز هو من سوف يستحق التتويج ؟ ثم يأتي السؤال المشتق من رحم السؤال الأول , ما هو الفيلم الذي يستحق التتويج ؟
الأسود لا يليق بك للمخرج عيسى الصبحي جاء لينهي الزوبعة ويبدأ أخرى ربما. في حوالي 15 دقيقة من الزمن المسجل فنيا طرح هذا الفيلم واحدة من اقدم المواضيع التي تزامنت مع قضايا الحداثة في الوطن العربي , النفاق الاجتماعي المرتبط مباشرة بالكبت في المجتمعات العربية ولن أقول العمانية حيث سيبدو من السخف والتمييز ان قلتها ربما وتلك حكاية أخرى.
حينما يتبادر لكل قاريء، عنوان الفيلم ستقفز مذكراته الدماغية الى أحد الإنتاجات الأدبية للروائية المعروفة أحلام مستغانمي والذي يحمل نفس العنوان دون  - لا النفي – رغم كون قصتي العملين الرواية والفيلم متباعدتان تماما – أرحمونا من سالفة مقتبس وفكرة ملطوشة – هنا شدني العنوان لمعرفة الحدث وما وراء الحدث قبل أن تضغط اصابع يدي زر البلاي play على جهاز العرض الجميل الأنيق ( تحية للمنظمين على الفكرة الخلاقة لعرض الفيلم على الجمهور) .
أن تأتي كفنان وتتحدث عن موضوع مستهلك يشاهده المجتمع لكنه لا يتحدث عنه بل ولا يطرق منصات العرض البصرية المختلفة إلا فيما ندر وعلى استيحاء لهو واجب مقدس ولا اقول انجاز يضاف الى الفنان, فبدون أن يكون الفنان مقدما لرسالة نحو مجتمعه فيما يجب أن يفكر فيه المجتمع هو ليس فنانا وانما شيء أخر أترك لكم تسميته . نعم موضوع فيلم الصبحي هو موضوع نعرفه جميعا بل ونشاهده في دهاليز حياتنا اليومية , قصة الفتاة التي تعاني من الكبت الأسري فتندفع الى فعل سلوكيات تعارض ما تربت عليه داخل المنزل. ذلك النوع من السلوكيات التي يتفق معظم أفراد المجتمع – وقد تختلف نسبة الإتفاق من زمن إلى أخر-  أنه سلوك مذموم غير مرغوب. رفع مستوى الشيلة ليظهر شعرها ( لنسميه الحجاب لكي لا نكون من المغضوب عليهم بأعين المؤولين) ,وضع أحمر الشفاة , القراءات الممنوعة ( عذرا الكاتبة هدى الجهوري لم يسقط سندريلات مسقط سهوا هنا) , الاتصالات الهاتفية مع شاب بداعي علاقة الحب كانت هي التابوهات التي تجرأت سندس الطالبة بطلة الفيلم على الضرب بها عرض الحائط لتدخل في دوامة جميعنا نعرفها ويتم الانغمس فيها على مستويات عدة وهي "النفاق الاجتماعي" وكأن سندس تحت وطأة الكبت من ابيها المحافظ ولن أقول ( المطوع) أُرغمت على اقتراف هذه السلوكيات؟ هل هو منطق الحرمان من الشيء يولد الرغبة فيه ؟ هل سندس حينما تشاهد اقرانها يفعلون سلوكا ما ينهى عنه رب أسرتها تكون قد اقترفت ذنبا ؟ هل رب الأسرة واع ٍ تماما لأهمية المشاركة الأسرية في مناشط الحياة ؟( ما سلط الفيلم الضوء عليه ايضا) وقبل هذا وذاك ؟ هل الإعلام المحلي والخارجي دخيلا كان أم مستوطنا  أو صديق السوء أو نتاجاتنا الأدبية والفنية هي بواعث لفعل سلوك ما يتم تأطيره لاحقا بأفكار ومعتقدات مختلفة يتم التعاطي فيها بطرق مختلفة ايضا ؟ جملة من الأسئلة التي يدفعك الفيلم للتفكير بها حالما تنسلخ عن الحدث لتذهب وراءها في جري متمهل يزداد كلما قمت بإعادة تشغيل الفيلم .
البعض قد يذهب ربما - عاطفيا - الى التركيز على موضوع العباءة السوداء والملاءة ليحصر عاطفته في الهجوم على ما قدمته الصورة لفهمه هو  ولا يمكن أن تأتي كهذا النوع من العاطفة إلا من خلال تنقل وتركيز سريع لنقاط الاستفزاز في أي مادة بصرية بحيث تغدو الشخصية مثالا للكمال الذي لو نقص منه قليلا لاتهمت بالدونية  دون أن يعي صاحب العاطفة أن المادة البصرية المقدمة قد تكون دراما تمثل واقعا لا يمكنه هو انكاره. هنا ينبغي أن نبحث جيدا في موضوع الملاءة والعباءة – وأترك لكم البحث - .
فيلم الصبحي لم يأت ليقول للمشاهد هذا هو الصح وهذا هو الخطأ. ليست هذه وظيفة صانع الأفلام فهو لا يلزم مشاهدا واحدا على قبول ما يقدمه, كما أنه ليس مجبورا على الموافقة على رأي مشاهد يختلف معه. الفن نسبة وتناسب  وحسبة معقدة قابلة للمط واعادة التشكيل يصعب علينا أن نحصرها في شكل واحد. لذلك أرى أنه من السخف تماما أن نقول مثلا أن الصبحي جاء ليقدم رسالة وعظيه يعظ فيها بنات المجتمع حول الاحتشام وطاعة الوالدين, يقابله في الجانب الأخر ايضا من السخف القول أن الصبحي جاء ليقدم رسالة يحث فيها الفتيات على الضرب بعادات وتقاليد المجتمع عرض الحائط وتنفيذ ما يرغبن تحقيقه .   منذ متى كان الفنان واعظا أو محرضا ؟ الفنان هو مقدم لقضية وفي موضع محايد وعلى المشاهد التعاطي معها نفيا أو قبولا . ما الفائدة من طرح فيلم يتفق عليه الجميع كما ما الفائدة من تقديم فيلم يختلف عليه الجميع ؟ أليس كذلك ؟ الصبحي جاء ليقول لنا هذا ما يحدث في المجتمع ؟ من الملام ؟ هل هو رب الأسرة في فيلمه ؟ أم بطلة الفيلم ؟ ام والدتها ؟ أم عريسها الذي تزوجته قصرا ؟ أم المشاهد الذي يتقبل الفيلم حسب ما يريد فيهاجم أو يصفق إعجابا ؟ تبقى الإجابات في يدنا جميعا ولن يستفرد بها أحد. سيكون من الغباء فعلا أن يتم ذلك.
ثمة شيء يتحرك في السينما العمانية  . النتاجات الأخيرة من الأفلام بدأت تصل الى مدارك الوعي الموضوعي بأهمية قضايا عُمان الاجتماعية الأن واثرها على الشباب والشابات. ثمة شيء يتحرك استبشر به خيرا من خلال رؤيتي لبعض من موجة النتاجات الجديدة في السينما العمانية . لم يعد الفلج والقلعة والمِصر والبيت التراثي والجحلة والرزحة هي مكونات التأسيس البصري الموضوعي لدى صناع الأفلام الجدد . بتنا نرى عُمان اليوم في أفلامنا. هموم المجتمع المعاصر الذي يسابق الزمن في الحصول على حقه الطبيعي في التنمية والتقدم بين اقرانه في باقي دول العالم. نعم هنالك العديد من التابوهات والخطوط الحمراء المجتمعية ( بعيدا عن الثالوث المحرم الذي نتفق جميعا أنه لا ينبغي المساس به ) التي يجب أن يكون فيها اشتغال سينمائي مكثف  " كفانا من بيوت الطين " .نعم كفانا محاولات الاثبات للعالم بشأن هويتنا كعمانيين في وقت يستطيع العالم أجمع المعرفة عن عمان وتراثها وحضارتها بكبسة زر على العم جوجل. هنالك العديد من صناع الأفلام الذين تشهدهم الساحة الأن يحاولون احداث تغيير في بنية الطرح الموضوعي السينمائي في عُمان ولكم نود أن يدوم هذا التحرك. أؤمن بقاعدة مهمة ألا وهي أنه لا بأس من أن تصفع المجتمع بين الفينة والاخرى ليتذكر ما هو فيه ويعكف على التفكير فيه لإيجاد حلول. قضايا مجتمعنا تحفل بالكثير . ذلك الكثير الذي لا يود الإعلام الخوض فيه وقبله المجتمع لا يود لا التطبيل ولا تطبيب الجراح عليه.  وأخر نقطة في حديثي في هذا الجانب هو ملاحظتي لذكاء الصبحي حيث ابتعد عن الصورة النمطية للرجل المحافظ والتي تشبعنا واسقمنا من رؤيته بهيئة اللحية والدشداشة القصيرة وربما العمامة. خالف الصبحي هذا التوجه وقدم لنا شخصية الرجل العادي الذي يمكن أن نراه في أي مكان وزمان . أجزم أن عملية اختيار الممثلين تمت بعناية وهذا مجهود يجب أن يشار اليه بالبنان للصبحي في ظل أزمة اختيار الممثلين لدينا في أفلامنا ومسلسلاتنا. سؤال واحد على سبيل الدعابة دار بخلدي في نفس هذا الموضوع. يا ترى هل قدم لنا الصبحي شخصية الاب بتلك الطريقة المحافظة الغير مبالغة ذكاء منه أم خوفا من انتقاد ( المطاوعة ) له  ولفيلمه .
عودة إلى الفيلم في تفاصيله الفنية والموضوعية فلقد جاء السيناريو في الفيلم جيدا يتسم بالرصانة والبعد عن الحوارات المطولة. كما ان انتقاء المشاهد جاء ليخدم موضوع الفيلم وان كان هنالك مشهد أو مشهدين ( مشهد مساعدة الأب لعابر في الشارع, ومشهد تعليق لافتة بناء المسجد ) كان يمكن استبدالهما بمشهدين أخرين يخدمان الموضوع بشكل أكثر تناسقا فوق مستوى رغبة الكاتب في ايصال فكرة حمادة السلوك وطيبة قلب الأب والتزامه نحو المجتمع في وقت يمارس فيه كبتا على اسرته. كما ان هنالك بعض الحوارات التي يصعب أن نسمعها في الواقع. اسوق على سبيل الذكر حوار الاب مع ابنته حول موضوع  الاختبارات حينما قال لها : ما مطنشنة تذاكري من الحين). بدهيا لن نرى ابا بمثل التركيبة التي قدمها لنا الكاتب في الفيلم يقول لأبنته ما مطنشة المذاكرة. حتى على مستوى واقع الحياة اليومية يصعب أن نرى كهذا حوار. مثال أخر للحوار الضعيف المستعجل أتى في المشهد الاخير للفيلم حينما يحذر العريس عروسته في ليلة زفافهما. من الواقع ايضا يصعب وربما من الاستحالة بمكان أن يقوم عريس ما بتحذير زوجته واخبار الاشتراطات السلوكية لها في ليلة زفافهما. يمكن أن يدور مثل هذا الحوار في فترة الخطوبة أو ما بعد الزفاف وانما في ليلة الزفاف, استعبد تماما أن نسمع مثل هذا الحوار حتى وان كان العريس مصابا بعقدة الشك في اسوأ الأحوال. والمثال الأخير  والذي ربما لم ينتبه اليه كاتبا السيناريو ( الحارثي والصبحي) هو خلق جو سائد من التهذيب داخل منزل سندس. تهذيب يقوم على أبسط السلوكيات ومنها طرق باب الغرف قبل الدخول. لكننا رأينا ما ينسف ذلك الجو حينما أقدم الأب على اقتحام غرفة ابنته ليلا دونما استئذان وهو صاحب المثل الرفيعة والاخلاق الطيبة. كما أن مشهد خروج الاب لتفقد ما يحدث خارج المنزل ليلا ثم عودته الى المنزل ليتجه مباشرة الى غرفة ابنته في دراماتيكية مهزوزة لم يكن موفقا البتة . ربما ببعض التأسيس الجيد لهذا المشهد لكان سيكون أفضل لا سينما في هذه المرحلة من القصة والتي تعتبر هي الكاسر أو التويست الوحيد الذي يقلب ميزان خروج البطلة من منطقة الراحة, العبور, الاكتشاف, المواجهة. بشكل عام سارت احداث القصة بشكل متسق جميل مريح بصريا لكنه متوقع كذلك. حيث يمكن للمشاهد الملاحظ المتمرس ان يتوقع سير أحداث القصة وصولا إلى نهايتها قبل أن يصل الى الربع الأخير من الفيلم فعلا. خُيل إلي نوعا ما وأنا اشاهد أحداث الفيلم أن الهدوء الذي يصاحبه وغياب ايقاع التشويق والشد ( لاسيما في موضوع حساس كالذي يطرحه الفيلم) أنني سوف اشاهد خاتمة ستقض مضجع هدوئي وتعطيني الكسر الذي كنت ابحث عنه طوال مدة الفيلم. لكن هذا لم يحدث للأسف. بدء الفيلم هادئا وانتهى هادئا في نهاية متوقعة كان من الممكن أن تكون أكثر استنفارا .
أما فنيا , فلقد ساهم الاداء الرائع والمقنن للمثليين في اعطاء الفيلم تلك الصورة السينمائية تمثيلا وحوار. لم يكن هنالك اسفاف أو مبالغة في الأداء التمثيلي داخل الفيلم بل سار بشكل طبيعي وكأنك تشاهد أحداثا من خارج نافذة غرفتك تماما  اللهم عدم القدرة الكاملة لممثل شخصية الاب في ابداء غضبه عندما كان يقوم بضرب ابنته . ومن ناحية التصوير كان اهتزاز الكاميرا جليا لكل عين. على جهاز ايباد صغير كان الاهتزاز واضحا, قس على نفس النقطة عرض الفيلم في شاشات عملاقة مستقبلا. تمنيت فقط أن يتم التركيز أكثر على تأسيس وصنع اللقطات السينمائية بحيث نرى لقطات سينمائية أكثر ابداعا تبهر المشاهد عوضا عن اللقطات التقليدية نوعا ما.
وربما من الأخطاء الفنية الملاحظة في الفيلم ايضا هو نوع العباة التي ارتدتها بطلة الفيلم. حيث كانت في أحد المشاهد مغطاة الذراع لكنها ظهرت في مشهد أخر مكشوفة الذراع وبوجود ابيها المحافظ.

مجملا أشد على يد مخرج الفيلم وطاقمه في تقديم هكذا اشتغال سينمائي وان كان الفيلم لا يخلوا من عثرات هنا وهناك ولكن من نحن لنكون بمستوى الكمال؟ غيرنا سبقنا واشتغل ومع ذلك ما يزال يقع في الأخطاء, فلنبتعد عن التأليه والكمالية اذن ولنقل براحة صدر. هذا فيلم يستحق التكريم والجائزة.
تقييمي 6.8/10

هيثم سليمان
@haitham.sulaiman