الأربعاء، 26 يونيو 2019

العمق الفراغي في الصورة السينمائية بين بيلا تار ونيخولاس جيرهالتر

العُمق الفراغي في الصورة السينمائية
الفيلم الطويل نموذجا
(بين مفهوم بيلا تار _ و _ نيخولاس جيرهالتر)
بقلم: الكاتب السيناريست هيثم سليمان
@haitham.sulaiman
Scriptcut.blogspot.com

" نحن نتتبع العمق النفسي الواقعي، وليس القصة أو المعلومات المعطاة عبر الحوارات ويبقى السؤال هو كيفية خلق العمل داخل نفس الانسان المشاهد.". في مقولته الشهيرة هذه يأخذنا المخرج الهنغاري فنان اللقطات الطويلة بيلا تار عبر أحدوثة متطرفة قومها الصورة التي ينظر اليها العمق لا كاميرا المصور. انه العمق الفراغي في الصورة السينمائية الذي يجتاح بكرة دماغ المخرج حتى يتلف تقمصه لدوره الرئيس ويتماهى مع المكان والشخصية من حوله بصمت.
هل جربت ان تصور فيلما جميع مشاهده خارجيه دون ان تضع ديكوباجية مع سبق الإصرار والترصيد لتخطيط النهار او الليل او حالة الجو وتركت كل هذا لتقرره الطبيعة وتسخر الشخصيات والقصة لتكون تحت جبروته؟ ما هو الحوار الذي تستقيه من المكان والزمان دون أن تفكر في خلقه أو صنعه وتنميقه ليتناسب مع إطار القصة وسير الأحداث؟

إن الفراغ الغير المحسوس الذي يؤدي الى العمق المحسوس في الصورة السينمائية هو التأثيث الأسمى الذي تمتاز به السينما المستقلة عبر تاريخها الطويل الذي يتشعب بين عناصر النوعية الفلمية من تجريبي وروائي.  في فيلم تناغم وريكمنستر يقودنا بيلا تار فراغيا حسيا عبر لقطات فيلمه في مشاهد تعبث بسرعة الزمن لتتحول الصورة الى جماد بطيء الحركة أقرب الى اللوحة المرسومة دونما قصد وتجر عقولنا والمخيلة الى بعد أخر نستشف فيها العمق الذي نرى من خلاله الشخصية والمكان الذي تتحدث تفاصيله إلينا. قد تكون الدمعة التي تنزل من عيني أرملة منكوبة الحظ تنتظر بصيصا من أمل في جند قادم وقت الشتاء محمل بأدران الحروب، قد يكون كلبا يدس انفه في مستنقع أسن على شوارع مدينة تغتالها الفاحشة والديانة في أن واحد. أو قد تكون واد عميق جاف عميق لا يتحرك ما عليه إلا قطرات من المطر.


كيف يشعر المخرج عندما يقف في مساحة فارغة ويتحدث اليها. ما الذي يتوقع ان يسمع أو أن يحس ويتعاطى مع. وكيف يمكن له ان ينقل عظمة الزحمة في الفراغ الذي أحس به للمصور لكي يشعر به ويتعاطى معه أيضا. بل كيف يشعر الكاتب وهو في غيوبة الموت التأليفية عندما ينغمس في طقوسه الخاصة يضاجع الصورة قبل تكوين الشخصية ورسم القصة ليخرج من بئر الصمت بحراك قوامه كل شيء داخل الكادر لينتج نصا لا نقرأه بأفواهنا بل بحواسنا. إن ميكنة الخلق التصوري لدى كل من السيناريست والمخرج هي عملية روحانية فكرية معقدة قل ان نرى مثيلها. حيث تجتمع الروح والفكرة في صندوق واحد مقفل. لنا أن نرى فيلم فراولات برية للعملاق انغمار بيرغمان لنشاهد ذلك الفن الذي يطلق عليه الفن السينمائي البطيء حيث تتسع مدارك الحواس وشاعرية الروح في قالب جاف صلف كخروج النبتة من قلب الصخر.
وعند الحديث عن فن السينما البطيئة لابد أن نذكر هنا الرائع الفذ المخرج النمساوي نيخولاس جيرهالتر عبر سلسلة أفلامه التوثيقية التي تذهب بعيدا في هذا الفن. عندما نتأمل فيلم في مكان ما انتاج عام 2001 وفيلم بريبيات انتاج عام 1999 نرى ونشعر بذلك التمهل الشديد الذي يقول لك، أي شيء حول الشخصية هو شخصية فعلا. المنطوق ليس الحوار ولا صوات المؤثرات ولا حتى حفيف ثوب البطل أو اهتزاز قرط البطلة وإنما ذلك الفراغ المصحوب بتمهليه عالية مقدسة تكس بالمجود شكلا وحسا تراه كمشاهد فطن.

وأنت تكتب نص فيلمك، الصوت له فراغ، والمكان له فراغ والشخصية لها فراغ بينما يتوار ما تبقى خجلا. أن ترسم نصا بمثابة أن تخلق ما لا تراه إلا أعين الفنان وأن تكسر توقعات القارئ كسر النظرية النسبية لأينشتاين وانسلال الثقوب البصرية لعدسات ابن الهيثم لتغوص في عمق الروح التي نتوق جميعا الى تفكيك طلاسمها عبثا. فما بعد الفراغ في الصورة من سلطان ولا بعد الشعور بها من مسيطر.