السبت، 5 أكتوبر 2019

JOKER فيلم , المدخل المظلم لكتلة من الضوء






J O K ER
المدخل المظلم لكتلة من الضوء 


اسم الفيلم : المهرج - #الجوكر
المدة : ساعتان ودقيقتان
سيناريو :
اخراج : تود فيليبس
بطولة : خواكين فينيكس , زازي بيتس , روبرت دينيرو ,فرانسيس كونوري وأخرون..
انتاج : 2019 – تود فيليبس , برادلي كوبر واخرون
شركات الانتاج المنفذة : دي سي فيلم, فيليج رودشو واخرون..
النوع : دراما , تشويق مقتبس عن شخصية من دي سي كوكيمز
أفلام من ذات الصلة :
Batman Franchise, Suicide Squad

نحن هنا اليوم لا نتحدث عن فيلم عادي. نحن نتحدث عن أحد اقوى الأفلام المنتظرة في السنتين الأخيرتين . نتحدث عن أحد أعقد الشخصيات التي وُجدت في الكتب الهزلية (الكوميكس) وأشد الشخصيات تركيبا في عالم السينما , شخصية ذات تاريخ طويل تقمصها ألمع نجوم هوليود , سيزار روميرو 1966 مرورا بجاك نيكلسون 1989 عطفا على  هيث ليدجر 2008 انتهاء ب خواكين فينيكس 2019.شخصية قد تشكل منعطفا حادا وخطرا في مسيرة اي فنان يوافق على ادائها, شخصية الجوكر, مجرم مدينة غوثام الساخر العدو الأول لباتمان أحد ابطال السلسلة الشهيرة التي تحمل نفس الاسم والتي تربت عليها أجيال, بالتالي نتحدث عن قاعدة جماهيرية كاسحة من اقصى الكوكب إلى اقصى الكوكب.

وقبل أن نبدا في تقشير لب فيلمنا لهذه السنة , ينبغي علينا أن نسال السؤال الذهبي الذي سأله محبو هذه الشخصية , ما الذي سيقدمه متقمص الدور لهذه السنة ؟ من هو الفنان من الأساس ؟ وكانت الاجابة ( خاكوين فينيكس), ولكي تضع عقلك في جسر تهميدي لتقبل تقمص هذا الاخير لهذا الفيلم المعقد بالذات أنصحك بمشاهدة فيلم مهم ساعد على ترشيحه للفوز بهذا الدور وهو فيلم ( أنت لم تكن هناك حقا) انتاج عام 2017 بطولة النجم ذاته والذي يمكنك من رؤية القدرات الفذة في اللعب على الشخصية المركبة ذات الطبقات المتعددة في دوره بذاك الفيلم.

لنبدأ ولأخذك في انطباع يحتوي ثلاثة نقاط رئيس حول فيلم الجوكر الجديد.

أولا :
الجوكر الشخصية والقصة :العلامة البارزة او البراند التسويقي لتركيبة شخصية مثل شخصية الجوكر هي ضحكته الشريرة المحطمة نفسيا والتي تقمصها وابدع فيها مختلف الممثلين عبر العصور. تلك الضحكة التي لا تدري هل ضحكة فرح ام حزن , قوة أم ضعف.  من هنا, وهنا فقط يأخذك الجوكر اليه, يقتنصك دون أن تشعر لتغيب في غياهب جبه لتبدأ في التساؤل, ما هي المعاناة ؟ ما هو السر خلف الضحكة التي تستضيفها كبريات القنوات التلفزيونية ويقلدها الكبار قبل الصغار. وحينما نغوص في القصة الجديدة التي صاغها لنا كاتبي السيناريو تود فيليبس( مخرج الفيلم) و سكوت سيلفر ندرك أننا أمام رجل مصاب بمرض نفسي مع تقرح عصبي جسدي ناتج من الضرب والتعذيب أيام الطفولة, هذا الرجل هو أرثر فيليك والذي يعيش مع أمه ويعتني بها محاولا أن يكون رجلا صالحا في مجتمع متقلب قاس مما يدفعه الى أن يكون شخصا أخر فيما بعد اثناء رحلته الى اكتشاف الحقيقة بشأن هويته وماضيه. وحينما نفصل القصة سنجد أن مخرج الفيلم وكاتبه ابتكرا منفذا جديدا ذو حبكة رائعة في الإتيان بقصة معقدة ذات خطوط درامية تجمع الماضي والحاضر سارت في تناسق رائع مع التركيز على قوة العمق النفسي للشخصية الواحدة التي تدور حولها جميع الأحداث منذ بداية الفيلم وحتى نهايته مرورا بقضايا مجتمعة معاصرة تم اسقطاها على مجتمع فانتازي سوداوي كئيب كمجتمع مدينة غوثام. وبالحديث عن المكان, هذه المرة لم يصطحبنا كاتبا السيناريو الى غوثام المدينة ذات المباني القوطية والشوارع المدمرة الكئيبة والأجواء المظلمة الملتهبة بمزيج الموسيقي ذات الكريشندو التصاعدي - الجو الذي تعودنا عليه في افلام الرجل الوطواط -  وانما ابتدعا نسخة جديدة للمدينة توازي العصر الحالي ,  طرقات وشوارع مدينة نييورك وأنفاقها . لماذا ؟ لأننا نتحدث هنا عن نمو شخصية وعمق شخصية يجب أن نفهم كيف بدأت بالدخول الى عالم الشر لذلك نحن نحتاج الى لمسات واقعية في المكان والزمان, لمسات تجعلك قريبا من الجوكر ومن غوثام ما قبل الجريمة المنظمة ( التي قادها الجوكر لاحقا بنفسه).
وأنت ترى الجوكر يضحك بالفيلم تشعر بالرغبة في الضحك لحد المعاناة, تبصر أمامك ارثر بداخل الجوكر القادم, الوحشية المطلقة التي أطلقها الخير ذاته.

وكنوع من الكسر والتشويق في القصة, نفاجأ باحتمالية أن يكون توماس واين والد بروس واين ( باتمان) هو الاب الشرعي للجوكر نفسه ( ما بخرب عليكم الفيلم) ولكن هذا الكسر اسهم كثيرا في أن نقترب أكثر من معاناة الجوكر وبداية الانكسار اللارجعي.  وربما هي لمسة المخرج التي يحرص ان يضع فيها بصمته الخاصة وان كانت مغايرة لواقع القصة التي تعودنا عليه.

ثانيا : الجوكر الاخراج
عندما نعلم ان أحد اكبر المخرجين الذي اخرجوا سلسلة باتمان هو كريستوفر نولان الشهير بعوالمه وأسلوبه في اخراج افلام العمق النفسي , وعندما نعلم أن مخرج فيلم الجوكر بنسخته الجديدة هو تود فيليبس الذي يحفل سجله بسلسلة من أفلام الكوميديا مثل هانجوفر 2009  و كلاب الحرب 2016 سنتعجب ما هي المؤهلات التي تجعل من هذا المخرج قادرا على تولي مشروع سينمائي قد يقصي مسيرته نهائيا مثل مشروع فيلم الجوكر؟ والإجابة صريحة وواضحة ( الكوميديا) . فعندما نتحدث عن اصول شخصية الجوكر وكيف بدأت من عالم القصص الهزلية المصورة وافلام الكرتون التي تربينا عليها سنجد أن الكوميديا السوداء ذات الطابع المسرحي هي مؤهلات كافية تماما ليشمر مخرج مثل فيليبس لتولي اخراج فيلم تعود على قوالبه جيدا. ل كان تتخيل مثلا كلينت استوود او ستيفن سبيلبيرغ يقومان باخراج نسخة كوميدية من هذا الفيلم ؟ سيكون بشعا بلا شك .كان الاخراج في هذا الفيلم ملحميا رائعا برائي الشخصي, برع المخرج في استدراجنا عبر مجموعة من اللقطات والمشاهد التي تقربك من الواقع ثم تعيدك الى الفانتازيا ثم تحفر لقدمك عميقا في الذات الإنسانية لشخصية معذبة محطمة يتلاشى كل ماهو جيد في عالمها حتى القدوة , حتى الأم . من أروع المشاهد التي ابدع المخرج فيها هو ذلك المشهد حينما يلتقي بروس واين الطفل بعدوه المستقبلي الجوكر أمام بوابة قصره المنيف, في هذا المشهد نرى الموسيقى , والتمثيل , والاضاءة والصوت واللغة السينمائية حاضرين بقوة وفي تماسك وابداع يجعلك تعيش التهديد القادم للطفل الصغير. تهديد رجل مثل الجوكر ( ليس لديه شيء ليخسره).
أما المشهد الذي سحر لب عقلي فهو  المشهد الذي كان قترب من نهاية الفيلم, المقابلة في البرنامج التلفزيوني الكوميدي,  مذهل بحق  كيف اجاد المخرج في إعطاءنا رؤية واقعية لبرنامج تلفزيوني ببث حي ومباشر بحيث يجعلك تنفصل عن عالم الفيلم والسينما لتدخل عالم التلفزيون والبث الحي.  انتقالية مذهلة تحسب لهذا المخرج وللمصور ايضا.

ثالثا : الجوكر الفلسفة والخطوط العريضة
هنا وفي هذا الفيلم سنشاهد الكثير من البنش لاينز. بشكل مكثف متسق وجميل يجعلنا نحضر قصيدة كأبة وقسوة واحباط وأمل مفقود. في هذا الفيلم سنشاهد كيف يقوم الخير بتوليد الشر ( توماس واين الذي خلق شخصية مثل الجوكر الى شوارع غوثام). كيف يعمل اثنان متضادان في نفسية واحدة. كيف تتحول شخصية ارق من أن تؤذي طفلا الى قاتل مهووس ترافق ضحكاته جرائمه . كيف يسهم المجتمع البشري في خلق وحوش من رحم ذاته ويطرحها الى الشارع ثم يخاف منها.
طوال الفترة الفيلم سنلاحظ ان هنالك صراعا مستعرا طبقيا بين اثنتين من طبقات المجتمع , الأغنياء والفقراء, ولن تلاحظ البتة وجود الطبقة المتوسطة في هذا الفيلم. هي معركة ذات قطب واحد توجهها السلطة والنفوذ والفساد والاعلام تسهم في صنع أبطال ومجرمين قتلة , هل الفقير حينما يطالب بحقه في الوجود يصبح مجرما, وهل يحق للغني أن يصبح بطلا رغم أنوف الجميع ؟ هل توجه وسائل الاعلام عبر برامجها ومنها برنامج ( موراي فرانكلين) الى الحقيقة عبر العاطفة  أم هي سلسلة من الخداع والاستعطاف في طريقها لتخدير المجتمع عن حقوقه ( نسقط عليها برامجا في عصرنا مثلا ايلين شو , ليت نايت شو , اوبرا وينفري....الخ ).
نقاط كثيرة تدور بخلدك وانت تشاهد الفيلم وتلك الكلاسيكية التي تربط الفن بالجريمة, الخير بالشر , التضحية بالأنانية.
وفي هذا السياق, دعوني أخبركم ان افلاما على غرار أفلام باتمان تسببت وبشكل واقعي (حقيقي) في وقوع هجمات مسلحة من المتأثرين بهذه السلسلة من الافلام, خيال يترجم الى واقع وكانت هنالك العديد من الضحايا التي سجلت في واقعة حدثت في الولايات المتحدة الامريكية ابان اطلاق فيلم ( باتمان , فارس الظلام) مما دفع المخاوف هذه المرة في أن تكون هنالك بواعث في فيلم الجوكر تسهم في وقوع حوادث مشابهة. ولقد كان هذا برائي أحد التحديات التي يصعب ان تتغلب عليها بحيث تخلق شخصية لا تجلب الكثير من العنف بل مسالمة نوعا ما ترش حولها مجموعة من توابل الاعذار بسبب المجتمع المحيط لتصبح فيما بعد مجرمة لا تتورع عن القيام بأفظع الجرائم ( اطلاق النار الوحشي على مدنيين في قطار , اطلاق النار على مقدم برنامج على الهواء , قتل رفيق في العمل بسكين في الجمجمة بمنتهى الوحشية حتى الموت ). ولقد فشل وكسب المخرج فيليبس الرهان حسب ظني. فكيف ل كان تظهر الجوكر غير عنيف أو قاس ونحن الذي تشبعنا به مجرما وحشيا نمطيا ؟

لا ابالغ أن قلت ان الفيلم سوف يترشح لعدد من جوائز الاوسكار أولها اوسكار افضل ممثل بدور رئيسي وكذلك افضل اخراج .

النقطة الوحيدة التي تثير استيائي م الموضوع كله والتي قد تشكل تخوفا مشروعا هي ( هل ينبغي لنا ان نلتمس العذر ونتعاطف مع كل مجرم وحشي في المجتمع ؟)

تقييمي
8.9/10
#هيثم_سليمان
#الجميع-يشارك_سينما
@haitham.sulaiman

مدونة سكريبت كت السينمائية



        

الجمعة، 16 أغسطس 2019

فيلم تارينتينو التاسع، القصة والقصة الموازية

فيلم تارينتينو التاسع
القصة والقصة الموازية
انطباع عن فيلم 
ONCE UPONT A TIME IN HOLLYWOOD
هيثم سليمان 
@haitham.sulaiman
Scriptcut.blogspot.com

الفيلم التاسع للمخرج الداهية الذي كسر قوانين صناعة الأفلام والسرد القصصي في هوليود, فيلم ونس اوبن تايم ان هوليوود للمخرج كونيتن تارينتينو. هل هو أفضل فيلم لتارنتينو حتى الأن ؟ (لا).. هل هو فيلم يستحق المشاهدة ؟ (نعم)... وتقييمي له 8.1/10 ... ولنبدأ ببعض المعلومات المهمة عن الفيلم :
النوع : دراما – كوميديا
سنة الإنتاج : 2019
ترتيب الفيلم من بين أفلام كوينتن تارينتنيو : الفيلم التاسع
انتاج : كولمبيا بيكتشرز واخرون
نوعية الانتاج : مشترك , الولايات المتحدة والمملكة المتحدة
توزيع: شركة سوني 
سيناريو واخراج : كوينتن تارينتينو
بطولة : ليوناردو ديكابريو , براد بيت , مارغوت روبي , الباتشنيو
الراوي : النجم كرت راسيل
زمان ومكان القصة : نهاية الحقبة الذهبية لهوليود 1969- لونس انجلوس
تاريخ الاصدار : 21 مايو مهرجان كان , 26 يوليو امريكا, 14 أغسطس بريطانيا والعالم
الميزانية : 96 مليون دولار
العائدات (حتى الأن): 113 مليون دولار 





مقدمة لابد منها..
حسنا, هذا الفيلم وبما أنه الفيلم قبل الأخير حسب الاقاويل التي رافقت تارنتينو ومشوار انتاجه السينمائي ككاتب ومخرج يفترض أن يكون فيلما لا يضاهى ويجب أن يكون فيه المخرج أكثر حذرا فيما يصنع, في هذه الفترة على الاقل لا سيما بوجود مخرجين عمالقة منافسين يتابعهم تارنتينو بنفسه أمثال سبيلبيرغ و نولان , كل واسلوبه ومدرسته الخاصة وبلا شك فإن اسلوب تارنتنيو الملقب بالويسترن سباجيتي هو مدرسة وفن خاص بذاته لطالما احتوى على ثلاثة عناصر ذهبية في كل فيلم اشتغل عليه المخرج تقريبا ( العنف والدموية , تبيان العنصرية , كسر المتعارف عليه قصصيا) ولقد راينا ذلك في افلام كثيرة مثل خيال رخيص 1994- كلاب المستودع 1992-أوغاد غير مشهورون 2009-اقتل بيل 2003 وصولا الى البغضاء الثمانية 2015) . كنت شخصيا في ترقب لصدور الفيلم منذ قرأت عن بدء كتابة تارينتنيو للسيناريو وما صاحب ذلك من من ضجة إعلامية وتكهنات لا سيما بعد أن تأكد خبر رغبة المخرج في توثيق قصة جرائم عائلة مانسون سينمائيا... ولكن قبل البدء في تقشير لب الفيلم, ما هو موضوع القصة والقصة الموازية في هذا الفيلم الجديد بالذات ؟؟

تحذير : نصيحة لأي مشاهد في طريقه لمشاهدة هذا الفيلم , لا تذهب وأنت لم تقرأ أو لم تبحث عن القصة الحقيقة لجرائم عشيرة تشارلز مانسون والا سوف تكره الفيلم وربما ستخرج من القاعة في الربع الثالث منه.





القصة الأولى ( الحقيقية):
فور اعلان كونيتن تارنتينو أنه بصدد كتابة سيناريو مبني على قصة جرائم عائلة مانسون الشهيرة أواخر الستينات بالتحديد في الفترة من 1967 الى 1969 ظن الجميع أن جميع أركان الأحداث بالفيلم سوف تتمحور حول هذه القصة. عائلة تشارز مانسون هي عشيرة من جماعة يطلق عليها الهيبي وهم مجموعات من المواطنين  الهجين الذين انتهجوا اسلوب حياة مختلف عما كانت عليه امريكا في الستينات.جماعات من الطبقة المتوسطة في المجتمع ترتدي ما هب ودب بتقليعات غريبة وتتعاطى المخدرات وتحتقر السلطة وتؤمن بمفاهيم غيبيه مختلفة وتقر السلام الداخلي للإنسان على حد زعمها. ودون أن اثقلكم بتاريخ هذه العشائر, يكفينا أن نعلم الحدث الأهم فقط وهو أن بعض من أعضاء عائلة مانسون وهم تيكس واتسون , سوزان اتكنز, ليندا كازبيان, باتريشا كرينوينكل قاموا بعملية اقتحام لمنزل عائلة المخرج البولندي اليهودي الأصل رومان بولنسكي وقاموا بقتل زوجته الممثلة الشهيرة شارون تيت واربعة أخرون من اصدقائه وبمنتهى الوحشية والعنف بالتحديد في التاسع من اغسطس 1969. ولمن لا يعرف رومان بولنسكي, هذا الرجل أحد رواد السينما في حقبة الستينات , امتداد العصر الذهبي لهوليود بمجموعة أفلام من اخراجه ( سكين في الماء 1962- الحي الصيني 1974 – ماكبث 1971) حصدت الكثير من الجوائز من بينها افلام نافست على الاوسكار بالرغم من تاريخ المخرج الاجرامي نوعا في التحرش بالقاصرات وهربه من أمريكا الى فرنسا ( ما يزال حيا يرزق).
اذن هذه هي القصة الرئيسة بالفيلم والتي ينبغي أن نعرفها قبل التفكير في مشاهدته. ماذا عن القصة الموازية ؟




القصة الثانية : (القصة الخيالية)
حيث وأن تارنتينو مشهور بإعادة صياغة التاريخ حسب مفهومه الخاص واسلوبه الخاص, لن نفاجأ بقيامه بخلق قصة أخرى يكسر فيها الأحداث قصصيا ويغير فيها من الوقائع مثلما شاهدناه يقلب انتصار هتلر على اليهود ليحوله الى هزيمة في فيلمه أوغاد غير مشهورون. إلا أن التحدي الأكبر في هذا الفيلم الجديد هو ثبات الناحية التوثيقية لجرائم عائلة مانسون وكذلك قرب الوقائع من عصرنا الحالي بالتالي كان على تارنتينو أن يتخذ طريقا أخر ويلعب لعبته التي يجيدها حتما كونه أحد امهر كتاب السيناريو في العالم . كانت الطريقة ببساطة هي خلق قصة أخرى تمشي جنبا الى جنب دون تماس مع القصة الحقيقة. 
في هذه القصة الخيالية يضع الكاتب المخرج بين يدينا ممثلا يوشك نجمه على الأفول وهو ريك دالتون(يقوم بدوره ليناردو ديكابريو) حيث يندب حظه في سقوط اسمه في اواخر الستينات بعد ما كان أحد اشهر النجوم في الخمسينات عبر سلسلة عمل تلفزيوني لرعاة البقر باسم قانون صائد المكافات . يرافق رحلة  ريك القلقة بديله منفذ المخاطر كليف بوث (يقوم بدوره براد ببيت) حيث يقضي الصديقان أغلب وقتهما بين المنزل والشرب والتمثيل في عدة أعمال أخرها حسب قصة الفيلم , الدبور الأخظر الذي يظهر فيه بطل الفنون القتالية بروس لي تماشيا مع بدء عرض مسلسل تلفزيوني شهير أخر يشارك فيه ريك دالتون بمسمى أف بي أي . وسط تذمر ريك دالتون من انتهاء مسيرته المهنية كممثل يظهر لنا المخضرم ال باتشينو بدور عميل وساطة انتاج يقوم بنصح ريك دالتون للعمل في عدة أعمال في ايطاليا لكسر رتابة الادوار البطولية التي يؤديها وكذلك لانقاذ مسيرته المهنية. جنبا الى جنب ومع سير الاحداث الى النهاية عبر ثلاثة خطوط درامية مكونة من خط ريك وخط كليف وخط  شارون ( التي تقوم بدورها مارغوت روبي) نستكشف ان منزل ريك يقع مباشرة بجانب عائلة رومان بولسنكي المغدور بها ( زوجته واصدقائه الاربعه) ومنها نعرف أن حلم ريك الابرز في فترة خوفه من فقدان مسيرته هو الالتقاء بعائلة رومان والجلوس معها عله يكسب منها تجديدا لمسيرته الفنية.




كيف أبدع الكاتب  بين القصتين؟
قمة في الابهار وشدة في الحرص ما فعله تارنتينو حينما خلق قصة موازية لقصة حقيقة وجعل احداث القصتين تمشيان جنبا الى جنب وتلتقيان في عدة مشاهد دون أن تلمس أحدهما الاخرى وتؤثر بها. بينما نرى قصة ريك دالتون وبحثه المحموم هو وصديقه لانقاذ مسيرته الفنية ؟ نرى في الجانب الأخر مدمجة واقعية وتوثيقية لجوانب من حياة القتيلة الممثلة شارون. تارنتينو وعبر هذا النص المحكم قصصيا يقول لنا وبكل بساطة , سانقل الجريمة الحقيقة الى سور المنزل الحقيقي دون ان تطرق الجريمة باب المنزل بالفعل.





رصيد الفيلم فنيا :
يحسب للفيلم اختيار تراينتينو الذكي والمعهود للقطات لا سيما لقطات الاقدام النسائية المعتادة في اسلوب الاخراجي وكذلك اللقطات الخلفية  للشخصيات من داخل السيارة مع اختيار الوان جد مميز وتركيز على كلاسيكية الحقبة الزمنية في انتقاء اللقطات والملابس والاماكن. لقد احضر المخرج هولييود الستين الى اعيننا بكل تفاصيلها مع الحرص على الانتقاء الممتع للموسيقى والاغاني وهيمنة عصر الراديو وشطوح جيل الستينات . كل من يشاهد اللقطات في افلام تارينتينو يدرك تماما انه متفرد بها ويستحضر مباشرة اسلوب الويسترن سباجيتي وكأن الصورة هي خليط من المعكرونة والماء النظيف ووحشية الكلاسيكية باحساس الزمان والمكان. لا تفوتوا المشهد الذي يقوم فيه ليوناردو ديكابريو باعادة مشهل تمثيلي داخل فيلم الدبور الاخظر, لنركز على حركة الكاميرا والحوار.






نقاط ضعف الفيلم :
قلتها سابقا ان هذا الفيلم هو فيلم رائع , يستحق الاوسكار؟ نعم يستحق لاسيما في خضم الافلام المترهلة التي شهدها عام 2019 ..ولكن هنالك بعض نقاط الضعف التي لم تعجبني ولم تجلعني اصرخ بداخلي, لقد فعلها تارينتينو مجددا.. أول هذه النقاط هو السرد القصصي في الفيلم.. هنالك كمية سرد لا دعي لها بحق والمصيبة الكبرى أنها ترافقت مع مشاهد طويلة لم يكن لها داع بل وتكاد تصيبك بالممل, لنركز على المشاهد التي يظهر فيها براد بيت. ونقطة الضعف الثانية هي عدم ظهور اسلوب تارنتينو في مثلثه الذهبي بكثافه الذي اعشقه شخصيا..( العنف الدموي, العنصرية, كسر الاحداث).. لم نرى في هذا الفيلم دموية وعنفا كبيرا اللهم في نهاية الفيلم وبشكل لم يكن مرض نوعا ما. لم نرى العنصرية حاضرة بقوة ما عدا أن تارينتينو نقل عنصرية الزنوج من افلامه ( ديجانجو بلا اغلال, البغضاء الثمانية, خيال رخيص) الى عنصرية أخرى وهي العنصرية ضد عشائر الهيبي مكنها الحوارات التي قالها ليوناردو وبراد بيت بين الفينة والفينة ( ع قولة اخواننا الكويتين قطات). وأخيرا لم اشاهد ذلك الكسر الذي تعودنا عليه في افلام مثل خيال رخيص والبغضاء الثمانية و اوغاد غير مشهورون.. هذه الخلطة المعروفة لكونيتن تارنتينو لم تكن موجودة وقد يعزى السبب الى كون هذا الفيلم الجديد مختلف ويتبع استراتيجية بصرية وقصصية مختلفة لكنه افقدني طعم اللذة في افلامه.






الخلطة كلها على بعضها ( خلاصة الابهار):
اصفها لكم في شكل نقاط ختامية 
*اثبت تارنتينو مرة اخرى انه احد اسياد كتابة السيناريو حيث قدم لنا تكنيك القصة داخل القصة وبشكل متوازي
*كسر تارنتينو قواعد مسيرة هوليود الحديثة في تبجيل وتعظيم وتقديم افلام الابطال الخارقين وعاد ليقولها في وجه هوليود ( رسالة حب ساخرة مثلما يقول) ان الابطال عرضة للموت والفناء, ليس هنالك تمجيد للابطال لا في الحياة ولا في السينما كذلك. وراينا رسالة المخرح المبطنة في حوارات الشخصيات تارة بين ليوناردو.
*كسر تارنتينو قاعدة الممثل الملتزم بالنص وقواعد التمثيل. وذلك عبر مشهد جلوس ليوناردو ديكابريو بالقرب من طفلة ممثلة تخبره بما يجب على الممثل ان يفعله لينجح .ثم يخبرنا تارنتينو وفي نفس المشهد فلسفته الخاصة في الممثل الناجح الحقيقي. 
*كسر تارنتينو مجددا تاريخ سجل الابطال الخارقين في الاعمال الهوليودية امثال افلام الفنون القتالية للنجم بروس لي , حيث جعل بروس لي وبكل بساطة يهزم ويهز عرشه امام ممثل بديل ( براد بيت)
*دمج المخرج بين اهمية حقبة نهاية الستين وبداية السبعين ( احتضار هوليود وبداية عصر الافلام التجارية وافلام الابطال الخارقين) وبين هوس وقلق الممثلين الكبار في نوستالجيا حزينة مرهفة نشعر فيها بروح الفقد لدى ترانتينو على جيل ذهب ولم يعد وفترة اتسمت بالغرائبيات.
*لمن يركز في اخر الفيلم , حقق مشهد اللقاء بين شارون( التي بقيت حية خلافا عن القصة الحقيقة)  وبين ريك دالتون(ليوناردو) قمة العاطفية والشاعرية بالفيلم حيث بين لنا المخرج عبر قصته المدمجة كيف ان الانسان الذي يسعى لهدفه ويتعب لاجله سيحققه في النهاية. هذا المشهد بالذات اثار عاطفتي كثيرا لاسيما ان الموسيقى المصاحبة كانت رائعة بحق.






الأربعاء، 26 يونيو 2019

العمق الفراغي في الصورة السينمائية بين بيلا تار ونيخولاس جيرهالتر

العُمق الفراغي في الصورة السينمائية
الفيلم الطويل نموذجا
(بين مفهوم بيلا تار _ و _ نيخولاس جيرهالتر)
بقلم: الكاتب السيناريست هيثم سليمان
@haitham.sulaiman
Scriptcut.blogspot.com

" نحن نتتبع العمق النفسي الواقعي، وليس القصة أو المعلومات المعطاة عبر الحوارات ويبقى السؤال هو كيفية خلق العمل داخل نفس الانسان المشاهد.". في مقولته الشهيرة هذه يأخذنا المخرج الهنغاري فنان اللقطات الطويلة بيلا تار عبر أحدوثة متطرفة قومها الصورة التي ينظر اليها العمق لا كاميرا المصور. انه العمق الفراغي في الصورة السينمائية الذي يجتاح بكرة دماغ المخرج حتى يتلف تقمصه لدوره الرئيس ويتماهى مع المكان والشخصية من حوله بصمت.
هل جربت ان تصور فيلما جميع مشاهده خارجيه دون ان تضع ديكوباجية مع سبق الإصرار والترصيد لتخطيط النهار او الليل او حالة الجو وتركت كل هذا لتقرره الطبيعة وتسخر الشخصيات والقصة لتكون تحت جبروته؟ ما هو الحوار الذي تستقيه من المكان والزمان دون أن تفكر في خلقه أو صنعه وتنميقه ليتناسب مع إطار القصة وسير الأحداث؟

إن الفراغ الغير المحسوس الذي يؤدي الى العمق المحسوس في الصورة السينمائية هو التأثيث الأسمى الذي تمتاز به السينما المستقلة عبر تاريخها الطويل الذي يتشعب بين عناصر النوعية الفلمية من تجريبي وروائي.  في فيلم تناغم وريكمنستر يقودنا بيلا تار فراغيا حسيا عبر لقطات فيلمه في مشاهد تعبث بسرعة الزمن لتتحول الصورة الى جماد بطيء الحركة أقرب الى اللوحة المرسومة دونما قصد وتجر عقولنا والمخيلة الى بعد أخر نستشف فيها العمق الذي نرى من خلاله الشخصية والمكان الذي تتحدث تفاصيله إلينا. قد تكون الدمعة التي تنزل من عيني أرملة منكوبة الحظ تنتظر بصيصا من أمل في جند قادم وقت الشتاء محمل بأدران الحروب، قد يكون كلبا يدس انفه في مستنقع أسن على شوارع مدينة تغتالها الفاحشة والديانة في أن واحد. أو قد تكون واد عميق جاف عميق لا يتحرك ما عليه إلا قطرات من المطر.


كيف يشعر المخرج عندما يقف في مساحة فارغة ويتحدث اليها. ما الذي يتوقع ان يسمع أو أن يحس ويتعاطى مع. وكيف يمكن له ان ينقل عظمة الزحمة في الفراغ الذي أحس به للمصور لكي يشعر به ويتعاطى معه أيضا. بل كيف يشعر الكاتب وهو في غيوبة الموت التأليفية عندما ينغمس في طقوسه الخاصة يضاجع الصورة قبل تكوين الشخصية ورسم القصة ليخرج من بئر الصمت بحراك قوامه كل شيء داخل الكادر لينتج نصا لا نقرأه بأفواهنا بل بحواسنا. إن ميكنة الخلق التصوري لدى كل من السيناريست والمخرج هي عملية روحانية فكرية معقدة قل ان نرى مثيلها. حيث تجتمع الروح والفكرة في صندوق واحد مقفل. لنا أن نرى فيلم فراولات برية للعملاق انغمار بيرغمان لنشاهد ذلك الفن الذي يطلق عليه الفن السينمائي البطيء حيث تتسع مدارك الحواس وشاعرية الروح في قالب جاف صلف كخروج النبتة من قلب الصخر.
وعند الحديث عن فن السينما البطيئة لابد أن نذكر هنا الرائع الفذ المخرج النمساوي نيخولاس جيرهالتر عبر سلسلة أفلامه التوثيقية التي تذهب بعيدا في هذا الفن. عندما نتأمل فيلم في مكان ما انتاج عام 2001 وفيلم بريبيات انتاج عام 1999 نرى ونشعر بذلك التمهل الشديد الذي يقول لك، أي شيء حول الشخصية هو شخصية فعلا. المنطوق ليس الحوار ولا صوات المؤثرات ولا حتى حفيف ثوب البطل أو اهتزاز قرط البطلة وإنما ذلك الفراغ المصحوب بتمهليه عالية مقدسة تكس بالمجود شكلا وحسا تراه كمشاهد فطن.

وأنت تكتب نص فيلمك، الصوت له فراغ، والمكان له فراغ والشخصية لها فراغ بينما يتوار ما تبقى خجلا. أن ترسم نصا بمثابة أن تخلق ما لا تراه إلا أعين الفنان وأن تكسر توقعات القارئ كسر النظرية النسبية لأينشتاين وانسلال الثقوب البصرية لعدسات ابن الهيثم لتغوص في عمق الروح التي نتوق جميعا الى تفكيك طلاسمها عبثا. فما بعد الفراغ في الصورة من سلطان ولا بعد الشعور بها من مسيطر.







السبت، 16 فبراير 2019

زيانة.. الفيلم الذي لم يحمل إسمه، المخرج الذي لم يجلس على كرسيه



زيانة .. الفيلم الذي لم يحمل إسمه, المخرج الذي لم يجلس على كرسيه.

أكره كثيرا الدخول في مقدمات لابد منها ولكن ينبغي ذلك ربما لكي لا يذهب هذا الانطباع ( يمكنكم أن تسموه تحليلا) في دوامة التأويلات التي يتقاذفها هذا وذاك في مختلف الأمكنة والمنصات الالكترونية المختلفة لا سيما وأن هذا الانطباع في طريقه ليكون في مدونتي الالكترونية السينمائية قبل أن يجف حبر كلماته.. لنفعلها معا.. على الأقل تبرئة للذمة... على الأقل.

بعد سلسلة من التكهنات بموعد عرض فيلم زيانة أول انتاج سينمائي مشترك بين الهند وسلطنة عمان  من اخراج الدكتور خالد الزدجالي لا سيما بعد تساؤلات كثيرة عن امكانية الانتهاء من تصويره نضيف الى ذلك سحابة الحيرة التي تاخمت ترقب سبقه يتعلق بفيلم " الحارة" الذي اختفى ضبابيا من الجو بسبب مشاكل في أموره أنتاجية بين الطرفين العماني والهندي .نفس الفيلم الذي تم التصريح عبر الصحف انه أول انتاج سينمائي مشترك بين الهند وسلطنة عمان كذلك تضاف الى سلسلة التكهنات ما اذا كان فيلم زيانة سيشكل فارقة في مسيرة مخرج الفيلم بعدما شاهدنا له فيلمه الأول البوم(2006) وبتواجد المخضرم محمد كامل القيلوبي كمستشار فني للفيلم( والذي أكاد أجزم أنه ساهم في خروج الفيلم بتلك الطريقة الرائعة وليس وجود المخرج وحده) وشخوص فنية أخرى ساعدت في خروج الفيلم الى النور, ذاك الفيلم الذي احتوى وجود المشتغلين الهنود فنيا في مسيرة عمل المخرج مرورا بفيلمه الثاني أصيل (2012) والذي تم تصويره بين محافظتي مسقط والشرقية. وبعد كل هذه التكهنات حسم الأمر وتم عرض الفيلم فعلا. توجهت الى صالة عرض هادئة بعيدا عن الضجة التي واكبت العرض الافتتاحي للفيلم ولم يكن بصالة العرض سوى ثلاثة من الأجانب الهنود واثنين من العمانيين الشباب في وضع صحي وليد ينبغي أن يستمر ويكبر تكوينا لدعمنا جميعا للاشتغال السينمائي في عُمان , اشتري تذكرة واذهب لحضور فيلم عماني ( ليش لا يا أخي).

في حوالي 90 دقيقة من الزمن يحكي فيلم زيانة قصة عادل زوج زيانة ( وليس زيانة) ورحلته للعثور على زوجته بعد حدوث حادثة اخلاقية للزوجة المذكورة أدت الى اصابتها بتعقيد نفسي أفضى بها للسفر الى الهند للبحث عن علاج في أحد معاهد التأهيل هناك. تلك الرحلة التي واجه فيها عادل الصعوبات وقابل فيها عددا من الشخصيات فور وصوله الى الهند في سبيل تحقيق هدفه لتختتم بالعثور على الزوجة المنكوبة نفسيا.

حسنا هذه هي النظرة العامة للقصة ومنها سأنطلق بدهيا الى أول عنصر من عناصر الفيلم, السيناريو كوني كاتب سيناريو في المقام الأول. يمكن أن نلتمس العذر لكاتب سيناريو حاول اجادة كتابة سيناريو ما ثم قام غيره بإخراج الفيلم, لكنني شخصيا لن ألتمس اي عذر لكاتب سيناريو يشتغل على اخراج نص كتبه بيده. فيلم زيانة جاء نصا مشتركا بين الكاتب فيصل الزدجالي والكاتبة فاطمة السالمي والكاتب الدكتور خالد الزدجالي. نحن نتكلم هنا عن ثلاثة عقول اشتغلت على نص واحد , وأحد هذه العقول يفترض أن يحمل خبرة تراكمية في كتابة السيناريو لا سيما وأنه يقوم بتقديم ورش ونصح لكتاب السيناريو على مستوى السلطنة  وأعني هنا الدكتور خالد الزدجالي, لذلك بدهيا , يفترض بنا كذلك أن نتوقع نصا قويا بل ومنافسا كنتاج لهذا الاشتغال والمعرفة, لكن هذا لم يحدث قط. حالما تشاهد فيلم زيانة ستصعق تماما بأول عيوبه وربما أكبرها ألا وهو النص. هنالك أزمة نص واضحة جدا للعيان . اشتملت نقاط الضعف في النص بين الحوارات الركيكة المفتعلة - وان اتخذت الطابع القصير الذي نراه في السينما المستقلة والذي أحبه وافضله شخصيا – والتي جعلت نطقها على ألسن ممثلين وممثلات ليس لهم تمرس في التمثيل السينمائي وما رافقه من تطابق الحوار مع الصوت نكبة وضعفا واضحا. اسوق مع ضعف الحوار ضعفا عاما في تركيبة سير أحداث القصة بالفيلم.
هنالك خلطة سحرية لدى كل كاتب سيناريو يسمى بالبنية او التركيبة العامة لقصة للفيلم, تلك التركيبة التي تجعل من تدفق الأحداث ناعما سلسلا يمضي بمنطقية يصاحبها ايقاع التأثير على المشاهد وشده عبر مراحل القصة وبالإمساك بالخطوط الدرامية بإحكام اثناء سير القصة من مرحلة الى أخرى فيما يعرف بالفصول الثلاثة ( بداية- وسط- نهاية) . حاولت جاهدا وأنا كاتب سيناريو أن أضبط تلك التركيبة في سيناريو فيلم زيانة فلم أجد منفذا واضحا يدلني عليها فأصابني الإحباط. طابع الفيلم المغامرة أو الفيلم الرحلة هو طابع جميل ومثري وينقل المشاهد – ربما القارئ أولا- بين أحداث قصة الفيلم بين تشويق واثارة وفكرة وانسجام شعوري يتم تأسيسيه على أحداث منطقية تلازم القصة نفسها. لم أجد هذا الجمال في سيناريو فيلمنا العزيز هذا. فما بين بحث عادل عن زوجته (الذي اتسم بالافتعالية والركاكة)  وبين مراحل المغامرة التي يخوضها كان هنالك تخبط جلي أسهم في وضوحه عدم اتساق وقوة الخطوط الدرامية. هل أنا أتحدث رياضيات ؟ تحملوني إذن وأنا أصطحبكم في رحلة قصيرة في أهم الخطوط الدرامية لقصة فيلم زيانة.
في وقت تمنيت فيه أن أرى زيانة كشخصية رئيسة تشكل أحد اهم الخطوط الدرامية في الفيلم فوجئت بغيابها الشبه تام كشخصية محورية. من المعروف في عالم القصة أن نرى الشخصية الرئيسة في القصة تخوض صراعا ما تنتقل فيه من طور الى اخر في طريقها الى النضوج ويصحب ذلك الطريق الدخول في دهليز الضعف, الاكتشاف التحرر, الانتصار او الهزيمة اذن نحن لا نرافق شخصية سلبية في رحلة المغامرة هذه  ولكن للأسف هذا ما حدث مع شخصية زيانة في الفيلم كخط درامي, كانت زيانة شخصية سلبية طوال فترة الفيلم بل بالكاد نراها تتحدث واكتفينا برؤية صورة تحاول جاهدة - من خلال تمثيل الممثلة نوره الفارسية- أن ترسم ملاح شعورية لحجم المعاناة التي تعيشها داخليا. لم تكن زيانة بمثابة شخصية رئيسية بالنسبة لي وانما شخصية ثانوية ذات حضور اقترب من التكثيف الحضوري الصوري الصامت لإضافة نوع من التراجيديا الغير مقنعة أولا الغير مؤثرة ثانيا. نتساءل هنا هل انتبه كتاب السيناريو ان القضية هي قضية زيانة كامرأة ( ولقد تم التصريح عبر وسائل الاعلام أن الفيلم يسلط الضوء على جانب من قضايا المرأة) وأن أحداث القصة ابتدأت بها – حادثة التصوير والفضيحة- ثم وبقدرة قادر رمى كتاب السيناريو الثلاثة هذه الحقيقة والمبدأ الأساسي ليقدموا لنا شخصية ثانوية بثوب صامت وسلبي ليتم اللعب على خط درامي اساسي أخر هو خط زوجها عادل والذي لا بأس في جعله شخصية محورية مهمة. أتعجب لماذا سمي الفيلم باسمها حتى, كان من الممكن تسميته الطريق الى زيانة, أو البحث عن زيانة أو أي اسم أخر عدى هذه التسمية ! لم يكن هنالك أي تأسيس احترافي لزيانة كشخصية مهمة بالقصة. في الجانب الأخر نرى الحضور المكثف صوريا وصوتيا لزوجها عادل الذي أعتبره شخصيا بطل القصة (الوحيد) فنرحل معه في رحلة لطيفة قوامها الفكاهة والألم والصراع رغم ان القضية ليست قضيته ولم تبدأ به  وان كانت مشاهد الاسترجاع ( الفلاش باك) أدخلته بشكل بدهي في صلب القضية كونه زوج المغدور بها. حسنا ولنذهب الأن الى الخطوط الدرامية للشخصيات التي رافقت رحلة عادل ( المهلهلة الركيكة). أبرز سمة في جميع تلك الشخصيات هو غياب التأسيس لخطوطها. حيث لم نرى تأسيسا صحيحا واضحا للهندي الذي رافق عادل في رحلته وكذلك الحال في الشخصية التي أداها الفنان طالب محمد قياسا عليه شخصية الفتاة الهندية وحبيبها وأبيها ومدمن المخدرات الذي قام بدوره الزميل سلطان الأحمد . جميع هذه الشخصيات وجدت داخل القصة في ولادة قيصرية انتهت بموت التأثير . كيف يمكن أن يتجاهل كتاب السيناريو بناء تأسيس صحيح لخطوط مساعدة ومهمة كهذه , حتى أنني لم أجد اسقاطات للقصة الخلفية لكل خط من هذه الخطوط اللهم الخط المتمثل في شخصية مدمن المخدرات والذي اتى عبر حوار اتسم بالزخم الشعوري للحظات قصيرة لم تكن بالكافية بتاتا للمشاهد لينسجم معها شعوريا.
ثم نأتي الى المشاهد التي لم يكن لها نصيب من التأسيس الجيد في السنياريو ومنها مشهد محادثة مدير الكلية(المعهد) مع زيانة وزميلتها في المكتبه , جميع مشاهد الاسترجاع المتعلقة بحنين عادل الى زوجته والعكس, تقبل عادل لتعطل سيارته داخل الغابة بتلك السرعة , مشهد الفيل والهرب منه والذي اراه منفرا لا داعي له البتة, المشاهد التي تم الزج فيها بعدة قضايا مجتمعية بطريقة غير متسقة ولا تتواكب مع أحداث القصة بشكل جيد  ( منها الخط الدرامي للفنان طالب محمد الذي أرى أن وجوده من عدمه كشخصية في الفيلم وبشكل لا يغفله حتى مشاهد مبتدئ في مرحلة الاعدادية), المشهد الذي عرف فيه حبيب الفتاة الهندية أن هنالك شخصا اسمه عادل وهو يبحث عن زوجته التي اسمها زيانة ( بالله عليكم كيف عرف الهندي هذي المعلومة !) اضاعة الكثير من مشاهد القصة في المشي داخل الغابات والشوارع, مشهد ظهور الشرطة فجأة – بقدرة قادر- في منطقة ادغال نائية - , ركاكة وضعف الصراع بين عادل وزوجته وقت حصول المشكلة الاخلاقية للزوجة  اضافة الى عدة مشاهد أخرى لن نسهب فيها. خلاصة وفي جانب السيناريو, لم يكن النص موفقا البتة وجاء ضعيفا مهزوزا وانعكس ذلك بأثر واضح في الفيلم لاحقا.

نأتي الى العيب الثاني بالقصة بعد أن كان العيب الأول بمثابة الكارثة التي أتمنى تداركها مستقبلا بالأخص في وجود دكتور له باع طويل في النصوص . شخصيا لا أرى أنه يليق البتة بالدكتور خالد الزدجالي الوقوع بهذه الطريقة بكتابة نص ضعيف كهذا النص – والذي أكرر أنه لو لم يكن هو مخرجه لا التمست له العذر لكنني لن أفعل في حالته وهذا شأني الخاص والمبني على ما قلت سابقا- . أما العيب الثاني هو جانب التمثيل بالفيلم والذي بدأ واضحا من خلال مشاهد الفيلم بنسبة كبيرة تكاد تصل الى التسعين بالمئة ونستثني منها المشاهد الأولى بالفيلم التي اتقن فيها الشباب الثلاثة ( المنتقمون) حيث قدموا مستوى مقبول ومرضي من التمثيل السينمائي بالفيلم وان لامسته معالم التمثيل المسرحي في نهاية المشاهد الخاصة بهم. أما بطل الفيلم والبطلة الافتراضية للفيلم مع بقية الممثلين العمانيين والهنود فلم يكونوا موفقين البتة في أداءهم التمثيلي الذي اتسم بالمبالغة والركاكة يضاف اليهما عدم تطابق حركة الشفاه مع أصوات الممثلين الشيء الذي جعل المصاب مصابين. ما شدني حقا من بين جميع الممثلين هو الممثل الهندي العجوز جوبا كومار الذي اسرني منذ أول مشهد , حيث بدأ تمثيله عفويا متسقا مع الجو العام للقصة الى درجة انه خيل لي أنني شاهدته في أحد افلام بوليوود الشهيرة بجانب نجوم من الصف الأول هناك وربما هو بالفعل. كان الأداء التمثيلي في لحظات البكاء والألم والفرح والحب لدى ممثلينا العمانيين مصطنعا مسرحيا واضحا . شخصيا اصابني نوع من الضيق وأنا أرى المشهد الذي يلتم فيه شمل عادل مع زوجته زيانة , رومنسية باهته مصطنعة على حياء وضعف عام لم يوصل ادنى شعور بالفرح والحب في قلبي  في وقت ينبغي أن يكون هذا المشهد بالذات هو ذروة وقمة العاطفية بقصة الفيلم.

أما العيب الثالث وربما يحتل المرتبة الثانية مباشرة بعد عيب السنياريو هو عيب المخرج. شخصيا رأيت المصور والمونتير في فيلم زيانة. لم ارى الممثلين ولا المخرج ( بالذات). أين هي رؤية المخرج ( كاتب النص) في هذا الفيلم. لم نرى رؤية واضحة للفيلم , بل لا ابالغ أن قلت أنني لم ارى المخرج في فيلمه وكأنه لم يكن على كرسي الاخراج طيلة التسعين دقيقة ! هل يعقل أن يدار فيلم طويل برؤية مصور ومونتير ؟ أين أنت يا خالد الزدجالي ؟ لم أرك في فيلمك ! ابتداء من الركاكة في اتساق المشاهد مرورا بالأداء المهزوز (المستعجل) للمثلين عبورا بضعف حبكة القصة ومطابقة السيناريو سلاما على زوايا التصوير واتساقها مع الأحداث ختاما بالبنية الاخراجية والنواحي الفنية ( اضاءة, صوت, موسيقى...ألخ) للفيلم بشكلها العام. ما الهدف من جعل عامل الفندق يسرع ليقدم مساعدته في أن يحمل حقيبة عادل (المصاب) ثم يتركها بعد عدة امتار قليلة بينما يتحدث مع عادل ( لو ما شلها أحسن !) قس عليه مشاهد أخرى لم يكن مقبولا فيها الزج بحوارات عن قضايا بين الهند وعمان بتلك الطريقة. لماذا لم تنفق بعضا من المشاهد لتأسس لنا القصص الخلفية لشخصياتك الثانوية بالفيلم وان كانت بشكل يسير. وكخلاصة في هذا العنصر ,  ان كان لي أن أعرب عن اعجابي الشديد لمصور وفنيوا الفيلم لأعلن عنه في المشهد الذي كان فيه العجوز الهندي جوبا كومار يقوم بعلاج عادل في فناء المنزل, اسرني الجهد الواضح اضاءة والونا وموسيقى فيه, أدخلني جو روح بولييوود للحظات ثم عدت لارتطم بواقع الضعف العام للفيلم بعده.

وأختم والحديث ذو شجن  وتعبيرا عن رائي شخصي, فيلم زيانة اصاب نفسه في مقتل وذلك عبر نسف ثلاثة من أهم عناصر نجاح اي فيلم , السيناريو والاخراج والتمثيل . نعم نحن كصناع افلام عمانيين ما زلنا نشق طريقنا ونحاول طرح تجارب تستلهم طموحاتنا وأحلامنا في هذا الفن ولكن ينبغي أن نعي تماما أن التقهقر بعد التقدم ليس صحيا. اصبحت توقعات العالم من حولنا وفي مجتمعنا بالذات معادلات صعبة يصعب الاحاطة بها لذا فلنعي مغبة اي ضعف نسهم في تقديمه لمسيرة عمان سينمائيا. والى الدكتور خالد اقولها بشكل شخصي كوجهة نظر له أن يتقبلها و له أن يضرب بها عرض, ربما أن الأوان أن تعتزل الاخراج وتلتفت الى جوانب أخرى في صناعة الأفلام تبرع فيها أكثر , فرجل بمثل صيتك ومكانتك في مختلف المهرجانات العربية لا ينبغي البتة أن يقع في مثل هذه الاخطاء الفادحة التي قد تضر بتاريخه ومكانته العلمية . أما جانب السيناريو فأنني شخصيا لا أغفر لك الزلة في تقديم نص ضعيف غير متماسك البتة يتحول الى فيلم كهذا تخرجه الى الناس والى صالات السينما وتتباهى به. غلطة الشاطر بألف مثلما يقال.

مجملا, اشكر الدكتور ومن معه على مواصلة الحلم ومواصلة التجربة – في وقت لم يقم غيره بذلك وربما اسقط هنا مباشرة الجمعية العمانية للسينما في ادارتها المنصرمة كونها البيت السينمائي الأول في عمان -  وأنه لفيلم يستحق أن نقف خلفه كل برأيه البناء ودعمه معنويا وماديا فجميعنا نكمل بعضنا البعض بعيدا عن اي خلافات شخصية في وسط موبوء كالفن – وتلك حكاية أخرى- . نعم قدم لنا الدكتور ورفاقه فيلما ضعيفا بسيطا لكنه لا يخلو من بعض الجماليات و يظل نتاجا بسيطا في اشتغالنا السينمائي . أؤمن تماما أن اي مجتمع فني لا يجرب ولا يواصل في مشوار التجربة هو مجتمع لن يذوق طعم الفن الحقيقي ابدا.   



هيثم سليمان
كاتب سيناريو وصانع افلام
ملاحظ  افلام.
انستقرام
@haitham.sulaiman

Twitter
@haithammusallam

المدونة الإلكترونية
سكريبت كت
Scriptcut.blogspot.com