الأربعاء، 26 يوليو 2023

أوبنهايمر , السينما والمعضلة الأخلاقية - Oppenheimer film Interpretation



أوبنهايمر , السينما والمعضلة الأخلاقية..

بقلم: هيثم سليمان

مدونة #سكريبت_كت السينمائية

 @haitham.sulaiman

========================================

" يتحول الفن إلى أداة سياسية عندما يقبح أو يجمل الواقع ".هذه هي العبارة التي دارت بخلدي طوال ذلك الحيز من الزمن –الزمن الذي هو ملعب نولان في منظومة أعماله على مدى عقدين من الزمن- وأنا اشاهد الفيلم الأخير للمخرج كريستوفر نولان " أوبنهايمر". حوالي الثلاث ساعات من الدراما المشحونة التي تفضي سببا تلو الأخر كعذر لجريمة لا مسوغ لها سوى جنون العظمة وتغذية شعور الإنتقام وأخيرا عقدة النقص التي لطالما شعر بها أبناء العم سام في كل محفل يجب أن يسجل التاريخ فيه كلمة للمنتصر أو ضربة موجعة  للخاسر.في حقيقة الأمر, وأنت تشاهد الفيلم يتولد لديك ذلك المزيج المزعج من المشاعر بين التقزز من فداحة الجرم والإنبهار بما يقدمه الفن ليخدم رجال الساسة. ولك أنت تصدق الكوميديا التي تقول " هل يمكن لأمريكا مثلا أن توافق بل وتروج لفيلم ينتقص منها ويشير إليها بأصابع الإتهام في جريكو دولية كتفجير اليابان ؟" طبعا لا, ولو كان كذلك لما كنا نشاهد حاليا الهجوم الإعلامي الساحق المتلاحق على فيلم " صوت الحرية" للمخرج اليخاندرو مونتفيردي  والذي يعرض حاليا في صالات السينما ويحظى بإقبال منطقع النظير ومنصات للجدال والتراشق في المجتمع الأمريكي نفسه.

صديقي القاريء, أنت بلا شك أنضج من أن تنطلي عليك مثل هذه الدعابة الأخيرة. فعبر تاريخ هوليوود الملطخ بالذرائع لجرائم العظمة الغربية – ولست بمحل مجادلة عقدة الخواجة حين ذكر الغرب هنا – لايمكن أن تأتي الأخيرة بفيلم ينتقص أو يهين من الشعب الأول في العالم والدولة الاقوى في العالم, وإنما مجمل الدعاية يتمثل في دس السم بالعسل في لعبة لن تجد هوليوود كالفن السينمائي وعاء حاضنا يدغدغ المشاعر قبل أن يستفز العقول بها. هل يمكن أن نتجاهل البطولات الأمريكية الخارقة في الشعوب التي شنت أو أشعلت فيها أمريكا حروبا ؟ قطعا لا, فالأمريكي هو الساموري في اليابان,  ولورانس العرب والإنساني في المسكيك والوطني في أمريكا الهنود الحمر.إذن ماهي اللعبة يا ترى ؟ أين قارورة السم واين طبق العسل ؟أجملها بإختصار في أن بلاد العم سام تريدك أنت أيها المشاهد الغبي المسلوب الإرادة والمنغمس في ليبرالية الإستهلاك والتفسخ أن تعطيها العذر فيلما فعلت اثناء الحرب العالمية الثانية من إبتكار سلاح الموت " القنبلة الذرية" وتفجير هيروشيما وناغازكي. ولكي يبدو هذا السم قابلا للإبتلاع, كان من الواجب إبراز المجرم وتقديمه بثوب الضيحة, روبرت أونهايمر, العالم الأمريكي ذو الأصول اليهودية مدمر الأجيال يظهر لنا في فيلم يتناول وقائع قيادته كالنعجة المستسلمة عبر فخ الحكومة وأجهزتها الأمنية لتتم التضحية به ويصبح " الشهيد " – وهي عبارة تكررت زهاء الخمس مرات في الفيلم – بقدرة قادر, أولم يكن الفيلم برمته مركزا على عمليات استدراج الشيهد الضحية إلى استجوابات وتحقيقات الحكومة ؟ منذ بداية الفيلم وحتى نهايته والمشاهد يذهب في جولة بين أروقة المكاتب واصحاب ربطات العنق لكي يسهل عليه أن يكتشف أن شهيدنا الضيحة تم استدراجه إلى خانة الخيانة.هل تستوعب الأن عزيزي القاريء القوة الناعمة لألة الفن ؟ تلك القوة التي تجعل من مجرم مع سبق الإصرار والترصد شهيدا يعاني من نوبات تأنيب الضمير بين الفينة والفينة.

وهنا يأتي الحديث عن جدلية أتاح هذا الفيلم وضعها مباشرة أمام مرصد العالم وكافة شرائح المجتمع , هل الفن يخلق من أجل الفن أم هو الفن ذو الرسالة . فإذا كان من أجل الرسالة , فما هي حدود الرسالة التي تتداخل مع مايسمى بالمعضلة الأخلاقية للإنسان ؟ هل هي رسالة واعية نبيلة أم هي رسالة تشويش وتهميش وتوجيه ؟ هل نسمح للفن بأن يوجه عقلنا الاواعي نحو محددات رغم أنها تتعارض مع الحقائق وبأوضح طريقة ممكنة ! فعلى ما يبدو أن السينما هنا وعبر هذا النموذج الصارخ "أوبنهايمر" لم تكن سوى شقراء حسناء لعوب دغدغت شهوة سكير وأوقعته فريسة لها على فراشها المعطر . السينما عندما تطرق باب المعضلة الإخلاقية وتجعلها مجرد أضحوكة لا قيمة لها مقابل أن تتوافق مع أجندة سياسية أو أيدولوجية معينة تغلف فيها الحقيقة بالتعاطف والشفقة ومحاولة إيجاد العذر لأعتى مجرم شهدته البشرية.

صديقي المشاهد , دعك الأن من كومة العواطف والخزعبلات الحكواتية التي تم ضخ الفيلم بها وأنت تشاهده من بدايته وحتى نهايته ودعنا نلتفت إلى الحقائق التي لا ينبغي أن تجعلها تفلت من عقلك الواعي. دعك من متاهات الجدلية بين العلم والأخلاقيات والتي كان الفيلم والمشتغلين فيه ومن وراءهم هوليوود يحاولون إقناعك بأن تفكير العالم مجرد بحت لا يهتم بالسياسية والدمار وكأ،ه ليس إنسانا يعي ويشعر.دعك من كل هذا واسمعني جيدا.

اينشتاين هو أحد المجرمين الذي ساهموا في نشوء القنبلة الذرية عن طريق تحريض الرئيس الأمريكي روزفلت وبيادقه على بدء سباق التسلح الذري, لكنه –أي اينشتاين- كان ذكيا بدرجة كافية للإبتعاد عن المستنقع الموحل الذي ستطلخ يديه في بالعار والدم لاحقا. أوبنهايمر كان وسيظل مجرم حرب ساهم في دمار مئات الألاف من سكان العالم مع إحتمالية كبيرة أن يدمر أخرين في مستقبل الأرض. أوبنهايمر كان يهويديا مدفوعا  بحقده على النازية الألمانية ورغبته في الإنتقام منها جراء ماحدث لشعبه بالتالي لم يكن كما صوره الفيلم عالما متجردا يريد فقط أن يمنع ألمانيا من الوصول إلى سلاح الموت قبل أمريكا – وما يثير الضحك هنا حد القيء هو تكرار شخوص الفيلم واقعا وقصة أن أمريكا سعت إلى إمتلاك القنبلة الذرية فقط لكي تمنع المانيا من صنع واحدة واستخدامها, ثم وأخيرا صنعت أمريكا القنبلة وهي من استخدمتها مرتين , لك أن تتخيل وتضحك – بل كان  رسول الموت وقائد سفينة الهلاك بكامل إرادته, مهما أوصلت لك وسائل الإعلام عكس ذلك.وأخيرا , لا شيء يبرر لأمريكا العظيمة تصنيع واستخدام القنبلة الذرية ضد اليابان , ولم تكن كذبة الحملان التي صرح بها الأمريكان بشأن أن إستخدام القنبلة الذرية ضد اليابان هو ارحم وسيلة لإنهاء الحرب وانقاذ الملايين من اليابانيين.

أما عن الفيلم كإشتغال فني, فأني أرفع القبعة لكريستوفر نولان الذي استطاع بمهارة المخرج المتمكن من أدواته في التحكم بالصوت والصورة في الأوقات التي يريدها  بحيث يجعل المشاهد على كرسيه مترقبا لما سيأتي بعد هذا المشهد وذاك في وقت نلاحظ جميعا أن الفيلم يحدث دراما عادية كرسم خطوط وسير أحداث, لكنها قدرات المخرج التي تجعل من العادي شيء استثنائيا ورائعا. شاهدنا الفيلم بمنظور الشخصية الواحدة – وهكذا تمت كتابة السيناريو, منظور الشخص الواحد – حيث أن جميع مشاهد الفيلم التي لاتحتوي استرجاع ( فلاش باك) كانت كلها بوجود أوبنهايمر , مما يؤكد تكنيك المخرج في التركيز على محور الشخصية الواحدة وباقي الشخصيات تدور في فلكها. كان السيناريو مكتوبا ببراعة منقطعة النظير مازجت بين استرجاع ماحدث سابقا ومايحدث الأن في خين زمنين مختلفين ولكن بإيقاع إتسم بعرض الحدث والغوص في اثارة تأويلاته. ما أزعجني في السيناريو هو كثرة الشخصيات التي أخذت تتدفق هنا وهناك في الفيلم منذ بدايته وحتى قبيل نهايته, ولكن حينما تعرف صديقي القاريء أن السيناريو مقتبس عن كتاب " برومثيوس أمريكا " – ولك ان تبحث عنه وعن  بروميثيوس لست هنا في حصة تثقيفية- عندها فقط تجد مبرا لكثرة زج الشخصيات كونها متصلة بأحداث لها علاقة مباشرة وغير مباشرة بإستجواب الأخ أوبنهايمر.

 الزج بمخرجين صف أول من هوليوود كان لعبة لم أجد لها مسوغا سوى تقوية العملية التسويقية للفيلم واتحدث هنا عن " غاري أولدمان", " كيسي أفليك" , رامي مالك" وغيرهم. أما بالنسبة لأداء الأدوار الرئيسية بالفيلم فكانت رائعا يستحق الثناء لاسيما " روبرت داوني جونيور, و " كيليان ميرفي" مع مبالغة في التمثيل أحيانا من  الممثل " مات ديمون ".لا اسبتعد عن يتم ترشيح الفيلم لأوسكار افضل فيلم وأفضل اخراج وأفضل ممثل بدور رئيسي. ودعك صديقي المشاهد من مقلب ضرورة مشاهدة الفيلم في صالة اي ماكس, فواقع الفيلم كان أغلبه مشاهد داخلية ولم يكن هنالك حاجة أو داعي لأن يتم تصويره بهذه التقنية من الاساس طالما أن الشعور والصورة قادران على الوصول للمشاهد في صالات عادية التقنية, وهذا ما حدث معي.

محبتي

 


الأربعاء، 12 أبريل 2023

عبد الرزاق الربيعي وقراءة إنطباعية عن الفيلم الروائي القصير " ديانة الماء"

 





قراءة إنطباعية 

التاريخ: 10\4\2023 – مسقط

الفيلم الروائي القصير : ديانة الماء

المخرج والكاتب : هيثم سليمان

مدة العرض : 28:38 دقيقة

النوع: خيال – دراما – رعب

مقدم الورقة : الأستاذ عبد الزراق الربيعي  

===============================

شكرا جزيلا للجمعية العمانية للسينما وكذلك لمكتبة مجاز على هذه الإستضافة, والشكر موصول لفريق عمل فيلم ديانة الماء والذي قدم لنا هذا العرض الممتع وعلى رأسه الكاتب السيناريست والمخرج هيثم سليمان.كما أوجه شكري لكل الذي حضروا معنا لهذه الجلسة.نحن إستمتعنا بمشاهدة الفيلم والأن نحاول أن نقدم قراءة ونتحاور مع الفيلم في الرسائل التي يحاول الفيلم أن يوصلها.

في البداية سأتحدث عن حضور البحر في السينما الخليجية. فالبحر يظل حضنا دافئا يحب السينمائيون الخليجيون الإرتماء عليه. كما سنتوقف في عنوان الفيلم الذي يحيلنا مباشرة إلى مفهوم المياه المقدسة. وفي معرض حديثي سوف أتحدث عن مكونات الفيلم والقصة من زمان ومكان وشخصيات وأحداث .ثم سأنتقل بعدها إلى سياقات الصورة من حيث المعنى والشكل الذي يمثل وسيلة إتصال بين المُرسل والمتلقي. وأنهي حديثي بالتطرق إلى عناصر الفيلم الأخرى كالإخراج والأداء مع الوقوف على بعض المشاهد المميزة بالفيلم.

بالنسبة لعلاقة البحر بالإنسان الخليجي يظل البحر بمثابة الحضن الدافيئ للمخرجين الخليجين, ربما لجماليات الصورة فهنالك يجد المخرج موقعا جاهزا ومتاحا يغترف منه ما يشاء ويؤثث المشهد الصوري بجماليات بوجود الصوت لاسيما الصوت الذي سمعناه اليوم بالفيلم وهو صوت البحر الذي إحتل مساحة كبيرة من مجمل الأصوات بالفيلم.كما يعتبر البحر كنزا غنيا بالحكايات والأساطير كعروس البحر وتنين البحر وأغاني البحر فهي كلها تزيد من رفعة العمل السينمائي وتدفعه إلى الأمام.أول تجربة للسينما الخليجية مع البحر هي فيلم " بس يا بحر " للمخرج خالد الصديق الذي أنتج عام 1972 م. حيث يتحدث ذلك الفيلم عن الشاب الذي يتوق لركوب البحر لصيد اللؤلؤ لكن والده المعاق يمنعه من تحقيق حلمه المتمثل بصيد بالزواج من حبيبته عن طريق ركوب البحر وصيد اللؤلؤ. وفي فيلم " ديانة الماء" نلاحظ مباشرة كتشابه , عيسى وهو يتوق إلى ركوب البحر للبحث عن أبيه.فهنالك مقاربات قد تحدث حينما يكون اصل المادة " البحر" هو الوجه المشترك بين الأعمال السينمائية الخليجية.ايضا هنالك فيلم خليجي أخر عنوانه " سيدة البحر" للمخرجة شهد أمين وهو إنتاج سعودي. حيث نلاحظ فيه قصة الفتاة التي تعيش في قرية على الساحل تحكمها العادات وفكرة تقديم القربان التي تتشابه مع قصتنا حيث " زهرة" هي القربان في فيلم " ديانة الماء" وهي التي تحاول كسر عادات وتقاليد مجتمعها الساحلي.ويوجد فيلم إماراتي بعنوان " ظل البحر" للمخرج نواف الجناحي يطرح ايضا سلسلة من القضايا الإجتماعية لمجتمع ساحلي معاصر. وأخيرا هنالك الفيلم الُعماني " البوم" إخراج الدكتور خالد الزدجالي .

وبعد هذه المقدمة أو المدخل عن علاقة السينما الخليجية بالبحر, نتطرق الأن إلى فيلم " ديانة الماء". وهو فيلم يتحدث عن الشاب الأعمى (عيسى)  الذي إبتلع البحر والده وتوقه لركوب البحر للبحث عن والده لكنه يواجه عدة تحديات ومصاعب مع إسقاط مباشر من مخرج الفيلم  لثيمة التمسك بالحلم والجرأة وحماسة الشباب عبر لقطتين لبيتين شعريين من ابيات قصيدة (إرادة الحياة) للشاعر التونسي المعروف أبو القاسم الشابي :

ومن لا يحب صعود الجبال

يعش أبد الدهر بين الحفر

وعندما نتحدث عن عنوان الفيلم " ديانة الماء", نحن نعلم أن عنوان الفيلم هو عتبة لدخول العمل الفني فيحيل كاتب ومخرج الفيلم هنا العنوان إلى المياه المقدسة .وهذا المفهوم موجود في الديانات السماوية وغير السماوية. فكما نعلم أن الوضوء والتطهر بالماء يمارس في الديانة الإسلامية والمسيحية  والهندوسية والتي ركز عليها الفيلم مثلما شاهدنا.فكرة نبش القبور وإغراق الجثث في ماء البحر لكي لا تحترق داخل جحيم الأرض ماهي إلا لتطبيق هذا المفهوم.

ونلاحظ عبر سير أحداث القصة بالفيلم أن هنالك إشتباكا بين المفهوم الديني لقدسية الماء في القرية وبين الخرافة السائدة حوله وإن كانت الغلبة في الطرح لجانب الخرافة.ثم تبرز نقطة أخرى بين هذين العنصرين ألا وهي العلم أو الحقيقة العلمية التي نراها هدف لبحث شخصية (سبيت) – التي قام بها الفنان صالح زعل الفارسي- حيث أدهشتنا هذه الشخصية بلغتها العالية وفي مقولة للجاحظ يقول فيها ( أن الكلام يطابق مقتضى الحال) فنرى بقصة الفيلم ما يسوغ تلك اللغة العالية للعجوز سبيت. فهذا العجوز هو رجل غريب وفد إلى القرية  وكان يعمل في مختبر طبي مما يمكن أن يبرر له العلو اللغوي.فالعجوز كان يتحدث عن الوسط الناقل والزجاجة الت يشبها بجسد الإنسان , وهذا في الحقيقة من أجمل المشاهد بالفيلم وأعمقها كما أنه يمثل بؤرة الفيلم الفلسفية. فمحاولة إنقاذ العجوز سبيت الجسد البشري لكي تذهب عنه الشوائب ليبقى العظم وهي اشبه بطريقة الهندوس الذين يحرقون الجسد ويبقون رماد العظام لكي يرمونه في النهر.وكما نعلم أن عند الهندوس لديهم عناصر الطبيعية تتمثل في النار, الرياح, التراب والماء.وإذا ما أفترضنا أن ريحا هبت على نارا فأطفأتها, يتبقى لدينا عنصرا الماء والتراب.وحينما نشاهد الفيلم ونغوص في المنظور المفاهيمي الفلسفي تبرز المقارنة بين الماء والتراب في سؤال أيهما أكثر قدسية. فيمثل الماء مصدر الغياب حيث أختطف والد عيسى وأبتلعه بينما يتمثل التراب في القبور السبعة التي تنبش بالقرية بشكل مجهول معلنة عن إختفاء الأجساد بداخلها.فيكون الماء هنا بحضوره أكثر قدسية من وجهة نظر العجوز سبيت حيث الذي يُتفه التراب و يذكر أن الماء  يشغل حوالي 71% من كوكب الأرض فهو المهيمن وهو المطهر. كما حضر عنصر تسفيه التراب وتصويره بأنه تافه لا قيمة له حينما نرى في أحد مشاهد الفيلم أهالي القرية وهم يدلقون التراب دلالة على عدم حقارته ويخاطبون الكائنات التي تأتي من الماء.

وفي خضم الإسقطات السابقة حول قدسية الماء وتفاهة التراب, يعرج الفيلم ليتطرق إلى علاقة الروح بالجسد وهي قضية جدلية وعالمية كبيرة.ويضج الفيلم بشكل عام بسلسلة من الأسئلة  الوجودية العميقة حيث تتمحور كلها داخل بنية من الصراع بين اليابسة والماء والصراع بين العلم والخرافة.  فالجمارية هي كائنات خرافية تأتي من البحر ويعتقد أهالي القرية الساحلية بأنها غاضبة عليهم وتقوم بنبش قبور موتاهم فيسعون إلى إرضاءها عن طريق تقديم القرابين المستمرة, وكانت زهرة هي أحد الضحايا أو القرابين لهذه الكائنات.

وأتطرق هنا إلى سياقات الصورة من حيث المعنى والشكل . فالمعني يتبين بالفيلم من خلال المضامين الدلالية والإيحائية والرمزية والتي أتت بشكل مكثف. وإستنادا على حقيقة أن أصل السيناريو هو نص قصصي مقتبس عن قصة قصيرة لكن مخرج الفيلم أعاد كتابته بصريا وهذا حق مشروع ووارد ,حيث يقول جان كوكتو " السينما كتابة حديثة حبرها الضوء".حيث حول المخرج الكلمات إلى ضوء وصورة وخرج لنا بهذا الفيلم. تقطيع المشاهد بالفيلم والربط بينها والحديث بالصورة كان ناجحا,  كما أن التأثيث الدرامي كان تاثيثا جيدا. وعندما نأتي إلى ألوان الصورة قدم مخرج الفيلم ألوانا تحمل قيما رمزية معينة نذكر منها على سبيل المثال, اللون الأسود في لباس " الجمارية" في الحلم الذي حلمه عيسى. حيث مثل هذا اللون بطريقتين مادية محسوسة ومعنوية رمزية.حيث مثل  العتمة التي يعيشها عيسى كونه أعمى وكذلك مثل التشتت والخوف الكبير الذي يعتريه بداخله .وهنالك اللون الأحمر الذي يظهر في  لباس الرجال والنساء بمشهد أهالي القرية المؤدين لطقوس مناداة الجمارية حيث تبدو بإعتقادي وكأنها مسيرة إلى حرب وتماشت مع الأزياء المبهرة التي حضرت في ذات المشهد ما أعمى الصورة ابعادا جمالية ومعنوية.

فهنالك الكثير من المشاهد التي لفتت إنتباهي بالفيلم ومنها مشهد الحوار بين عيسى وأمه وتحذيرها له من السؤال عن أبيه المفقود فتقول له " أن الحقيقة تلسع من يتقاصها ويبحث عنه بحثا محموما".

وكخلاصة, أمتعنى فيلم "ديانة الماء" كثيرا فهو يزخر الفيلم بالكثير من العناصر الفينة الجميلة ويقدم عدة إسقاطات عن مواضيع جدلية في صيغة أسئلة وجدانية عميقة , كما شدني الصراع بين العلم والخرافة والذي بنهايته إنتصر العلم والمعرفة على الخرافة والأسطورة في صورة مكثقة واسرة ركز فيها المخرج على شخوصه وعلى الحوار الذي كان مقتضبا فإسطتاع المخرج أن يربط بين جميع هذه العناصر ويقدمها في مدة زمنية. وختاما أهني مخرج الفيلم على هذه الفرجة والتجربة التي تستحق الإشادة والتي بدورها ستتحمل الكثير من النقاشات.