السبت، 29 نوفمبر 2025

ملكة الليغو , الأشياء حتماً ليست في مكانها

 



ملكة الليغو , الأشياء حتما ليست في مكانها 

وأنت ترى الملصق الرسمي الدعائي (البوستر) لفيلم ملكة الليغو لمخرجه هيثم سليمان ينتابك ذلك الشعور بأن ثمة شيء قادم أو مختلف لم نعهده قطعا في أفلامنا العُمانية. جلوس شابين عُمانيين على أرضية مكتبة أحدهما يمسك كتابا والأخرى تمسك قطعا من لعبة الليغو الشهيرة يحدقان في بعضهما بتفاؤل وحب مع وجود سلسلة من الألوان المختلفة للكتب في خلفية الملصق بعدة ألوان واضاءة المكان (العصري جدا) بالمكتبة. من الواضح من عنوان الفيلم وملصقه الدعائي أنه يوجد توجهٌ ما لدى مخرج الفيلم بأن يشكل هذا الفيلم تغريبا على ماهو سائد في انتاج الأفلام العُمانية بدءاً من السيناريو إنتهاءً بالمونتاج. ستشعر مثلا وأنك مُقبلٌ على مشاهدة نموذج عربي محلي مستنسخ من أفلام هوليودية على غرار

The Fault In Our Stars , 5 feets Apart , All The Bright Places

كما ستشعر أن الفيلم يبدو كفيلمٍ تجاري محض ويخالف طرق وأساليب وانتماء مخرج الفيلم الذي عودنا على تلك الغرائبية في أفلامه الروائية القصيرة السابقة ابتداءً من تاجر الزمن وانتهاء بديانة الماء, الفيلم الذي كان أكثر عنفوانا وتوغلا في الغرائبية ومزجها بالواقعية، لك أن تسميها واقعية سحرية حيث لم ينكر مخرج هذه الأفلام انتماءه لمدرسة غوزيه ساراماغو وجارسيا مركيز في أدب الواقعية السحرية. فتتفاجأ هنا ولمجرد رؤية ملصق الفيلم أنه ومن المحتمل جدا أن المخرج سيسلك مسارا بعيدا ليخرج فيلما عائليا ترفيهيا ربما لتجربة ما مختلفة يمتحن فيها نفسه أو أنه هنالك توجهات معينة في شؤون الإنتاج كان ينبغي السير عليها بحذافيرها.

ولكن بعد أن تذهب إلى مشاهدة الفيلم – أي ملكة الليغو- ستشعر أنك تشاهدا فيلما توعويا عائليا سطحيا يكافح للوصول إلى 60 دقيقة من الزمن لا أكثر ولا أقل. حيث كانت السمة الأبرز للفيلم والتي بلا شك كانت واضحة وضوح العيان ومزعجة إلى حد كبير هي المباشرة والسطحية في السرد وتسلسل الأحداث بحيث يبدو أن الفيلم يسير -وحتى قبل أن يصل إلى منتصفه- إلى نهاية طبيعية تكاد تكون شبه معروفة.

لا يمكننا أن تجاهل أن هذه التجربة هي الأولى لمخرج الفيلم في شق الفيلم الطويل ولكن وبرأي المتواضع لم تخرج هذه التجربة من عنق الزجاجة لكي نستطيع أن نقول أنها عبرت بسلام كباكورة أعمال هيثم سليمان في الشق الطويل.

كانت هذه التجربة وبحق شمعة باهتة لم تخلق جديدا أو مغايرا على ساحة السينما العُمانية إلا في نقطة واحدة فقط، إظهار مجتمع المدينة العُمانية بعيدا عن مظاهر وقصص القرية العُمانية بالإضافة إلى الحديث عن موضوع الاكتئاب الناشئ عن التعلق بالأشخاص والأشياء. كنا نتمنى وبعد ترقب أستمر لسنة من الزمن أن نرى فعلا وصول هذا الفيلم إلى مرحلة نقول فيها هذا شيء مختلف ورائع ولكننا نجدنا بعد مشاهدته نقول هذا شيء مختلف نوعا ما لكنه عادي جدا.

ودعوني أخذكم في بعض الجوانب التي مثلت أخطاء فادحة ارتكبها مخرج الفيلم حيث أن لا أحد سواه يتحملها بالإضافة لكونه كاتبا لسيناريو الفيلم نفسه.

ففي جانب الأداء التمثيلي , أحد العيوب التي تظهر مباشرة لدى مشاهدتك للفيلم هي التباين في مستوى الأداء التمثيلي. كان من الواضح أن مخرج الفيلم لم يوفق في اختيار العديد من الممثلين لأدوارهم إلا في حالتين أو ثلاث من مجمل مجاميع من الممثلين لا سيما وأن هذا الفيلم يطرح قضية تؤرق الشباب فكثُر الزج بأدوارٍ شبابية في الفيلم في وقتٍ لم يساعد الأداء التمثيلي على القيام بدوره الكافي لينجح في إدماجنا مع أحداث الفيلم. كان سير خط العديد من الشخصيات بالفيلم سيرا نمطيا واحدا دون تصاعد أو تنازل في خطه الدرامي واكتفى مخرج الفيلم – كاتب السيناريو- على التركيز فقط على محور الشخصية الواحدة البطلة لعمل بناء درامي لها ينقلها من حالة السكون إلى حالة الشتات والانكسار ثم مجددا إلى حالة السكون بنهاية الفيلم. لم يكن النص يسمح للممثلين من الأساس أن يكون لديهم عمق أكبر في محتوى الشخصيات التي يقومون بتأديتها فكان الأمر أشبه برقعة شطرنج لا يوجد متحرك فيها إلى الملكة فقط، ملكة الليغو هنا وكأن البقية من الشخصيات كانت حوافا تزين اللوحة الباهتة ولا تقوم بأكثر من دورها الهامشي المعتاد في تقدم الأحداث لا تنامي الفعل الدرامي وكأنك أحضرت مجموعة من الكومبارس ثم حشوتهم في فيلمٍ أنت تعطي فيه البطولة المطلقة والضوء الوحيد لبطلة قصته. هل كان مخرج الفيلم ينوي تجربة شيء ما لا سيما في نطاق فيلم طويل؟ من الواضح أنه لو كان ذلك فلم يقيض له النجاح فيه بل وعلى العكس ساهم هذا التوجه في التركيز المطلق على الشخصية الواحدة سردا وظهورا في مجمل الفيلم على  تحميل الفيلم بأكمله على أكتاف ممثلة شابة صغيرة ما زالت تلتمس طريقها في مجال التمثيل فكانت المحصلة هو ضعفٌ عام في الأداء التمثيلي انعكس على فريق الممثلين ومصداقية واستمتاعنا بالفيلم .

حينما نأتي إلى التوجه الإخراجي الذي إتبعه المخرج, نجد أنه بلا شك حاول أن يستنسخ فكرة الفيلم المعاصر ذو اللمسة الشبابية لمجتمع مدينة عربية يحمل مشكلة أو موضوعا مهما ما فعبر مرار وتكرارا عن هذا التوجه من خلال تصميم الإنتاج واختلاف لهجات الحوار المحلية لكون الفيلم يطرح القصة في العاصمة مسقط موقعا للأحداث ولكن ومجددا حسب رأي الشخصي ما يزال المخرج يحتاج إلى خبرة أكبر لتقديم مثل هذا التوجه لا سيما وأنه قادمٌ من خلفية اخراج أفلام قصيرة مستقلة تتسم بغرائبية مفرطة. وكأن الأمر أشبه بإحضار فني مختبرات أدوية وعقاقير ليعمل مهندسا في منجمٍ للفحم. لقد بدى الفرق في التوجه واضحا وجليا بل وعزز مسألة عدم النضج والمعرفة الكافية لمخرج الفيلم بهذا النوع من الأفلام لا سيما في فئة الطويل. ونحن نرى الفيلم كنا نشعر وأن المخرج قفز من الدور السابع كان يحكي فيه قصصا يعرف كيف يحكيها بصريا ليرتطم بالدور الأرضي ليحكي قصصا هو لم يتعود على حكايتها بصريا. كان طابع الإخراج التلفزيوني الدرامي والتوعي الصارخ واضحا في الفيلم حتى من خلال اللقطات المتحركة ولقطات الكاميرا الطيارة. وبالرغم من جمالية الكثير من اللقطات بالفيلم – أتحدث عن تأثيث مكونات المشهد والألوان- لكنها جاءت مفخمة بشكل مبالغ به وكأنها تصر على تأكيد أن هذا الفيلم هو فيلمٌ عماني بنكهة عصرية يريد أن يظهر سكان المدينة من فئة الشباب عبر تفاصيل من حياتهم اليومية. كما أن السيناريو ساعد المخرج في تعزيز الوعظية المباشرة من خلال وجود الراوي في التعليق الصوتي (الفويس أوفر) والتي من المؤكد ان مخرج الفيلم استخدمه للتنقل بين مراحل القصة إعتمادا على مبدأ الفصول الثلاثة -بداية وسط نهاية – لكن استخدام التعليق الصوتي جعل الفيلم يتجه مباشرة إلى التوعوية الأقرب إلى الدراما التلفزيونية المحلية التي لطالما تعودنا رؤيتها في الكثير من الأعمال. كان هذا سلاحا ذو حدين وربما لم يكن سلاحا البتة يمكن أن يساعد مخرج الفيلم في تقديم الفيلم بشكل أفضل مما هو عليه. حاول المخرج إبتكار بعض الفواصل الفنية عبر لقطات تميل وبشدة إلى لقطات الأفلام التجريبية واللعب على الفضاء والمساحة والتبسيطية في وقت كانت فيه بطلة الفيلم تمر بحالة من الشتات والاكتئاب لكن الزج بهذا النوع من اللقطات من الأفلام التجريبية وسط فيلم درامي توعوي مباشر  لا يوفر لك بحبوحة إظهار عناصر مثل العمق والغموض والتجريد, جعل نقطة زج هذا النوع من اللقطات بالفيلم أشبه بصب كوبٍ من الزيت على سطل ماء ثم محاولة خلطهما وكأنها محاولة انقاذ يائسة من مخرج الفيلم يريد بها أن يسمع صوته الداخلي الذي عودنا عليه في أفلامه المستقلة السابقة فكانت النتيجة حشوا لا داعي له البتة. كما أن مقدمة الفيلم الطويلة التي لم يكن لها داعي لأن تصل إلى ذلك الكم من الوقت, ربما هي إحدى محاولات المخرج لسحب زمن الفيلم ليصل إلى الستين دقيقة.

وعندما نأتي إلى السيناريو فكان من الواضح جليا أن قصة الفيلم تم مطها لكي تصل وبشق الأنفس إلى الستين دقيقة من الفيلم (فيلم طويل). كانت هنالك العديد من اللحظات التي شعرنا فيها أن مستوى الطرح العادي للفيلم وإطالة بعض المشاهد والأحداث فيه وكثرة الحوارات تقودنا إلى الشعور بالتململ. وما يُدهش حقا أن هذا  المط كان من الممكن أن يكون محمودا  في نهايات الفصل الثاني من القصة ألا وهو اشتداد الصراع الداخلي ومحاولة خروج البطلة من حالة الإكتئاب. ولكننا لم نرى ذلك يحدث بل ما حدث على النقيض تماما حيث مر هذا الفصل سريعا جدا بشفاعةٍ غير مجدية من التعليق الصوتي للرواي. حيث اختفت مساحة كبيرة من الأحداث التي كان من الممكن أن تجعلنا نندمج أكثر ونتعاطف مع حالة بطلة الفيلم مع الإكتئاب. وكأن الأمر بدأ بخطأ من كاتب السيناريو ساهم لاحقا مخرج الفيلم في إيضاحه وتمكينه. كانت المحصلة مجددا، دفقة سريعة مستعجلة من لقطات الفيلم التجريبي المختلفة ترافقت مع التعليق الصوتي للراوي فكان الأمر مترهلا وركيكا.

وفي جانب التصوير وبالرغم من الكثير من الجمال في الفيلم، ذلك الجمال الذي يمكن أن تراه في تصوير فيلم توعي أو فيديو دعائي إلا أن اللقطات المهتزة الغير ثابتة في لقطات يفترض أن تكون ثابتة كان واضحة بالفيلم. كما أن الثبات في اللقطات المتحركة في مشهدين أو ثلاثة لم يكن في أحسن حالاته. كان توجه المخرج مجددا في تقديم فيلم يحكي واقع شباب عُمان المعاصر من خلال لوكيشنات التصوير واللباس وتنوع اللهجات وموضوع الفيلم هو أحد البواعث التي أثرت برأيي في كم ونوع التصوير الذي رأيناه بالفيلم مع كل جمالياته وكذلك اخفاقاته.

 

ختاما, هل نجا فيلم ملكة الليغو من عنق الزجاجة لنستطيع القول أنه فيلم عُماني طويل جاء ليعطي دفقة نجاح لمشوار الأفلام العُمانية الطويلة, قطعاً لا . هل يمكننا القول بأن هذا الفيلم كان أفضل من الأفلام العمانية الروائية الطويلة السابقة، برأي الشخصي قطعا لا. هل غامر المخرج هيثم سليمان في هذه التجربة واقتحم معتركا لا ناقة له ولا جمل فيه, أقول نعم (بتناسب نوعا ما) محصلته هو عدم وجود الخبرة الكافية لديه لهذا النوع من الأفلام الدرامية العائلية في الشق الروائي الطويل, حيث يمكن أن أجزم أنه لو كانت قصة الفيلم ومحتواه وبيئته هي من ذات البيئة التي يرتاح فيها المخرج باللعب فيها – الفيلم المستقل- لكان من الممكن أن نشهد حقا فيلما جيدا.  هل فيلم ملكة الليغو هو فيلم سيء؟ لا أعتقد ذلك ولكنه حتما من الممكن أن يكون أفضل بكثير مما شاهدناه. هل كان هذا الفيلم فيلما مختلفا؟ قطعا نعم ونتمنى أن نرى أفلاما أكثر جودة تكرس طرح فضاء المدنية في عُمان وتناقش قضايا تختلف عن كليشهات القضايا التي تعود صناع الأفلام في عُمان على طرحها وتقديمها. ربما الأمر هو بداية محاولة تستحق الوقوف عليها لتنضج أكثر وبوعي أكبر , لا غير.

 

محبتي

 

هيثم سليمان

مخرج فيلم ملكة الليغو

بيروت - 29 نوفمبر 2025