البحث عن سينما عُمانية
جديدة
*هذا الطرح ليس بإقتباس ولا بتصرف وربما بلا مواربة.
هيثم سليمان \ سينمائي
" في الحقيقة
لقد قدمت فلما جريئا وبه جرأة", هذه العبارة التي تكررت على مسامعي عدة مرات
ونحن نسدل الستار على مهرجان ابن جرير السينمائي الدولي بدولة المغرب الشقيقة. حيث
أتى هذا التعقيب من نقاد وإعلاميين مغاربة في خضم جولات وصولات الأحاديث والنقاشات
عن الأفلام المشاركة. في حينها كنت أتساءل حقا عن الجرأة التي يقصدها الأخوة
المغاربة في فيلمي " ملكة الليغو" أخر اشتغال سينمائي وأول فيلم روائي
طويل لي شخصيا. هل كانوا يقصدون الجرأة الموضوعية أم الفنية أم الاجتماعية أم ماذا
بحق الله ! أما اذا كان القصد هو جرأة موضوعية فهي ليست كذلك بلا شك ونقس عليها
الجرأة الفنية لصانع أفلام عُماني شاب ما يزال يتعلم أ ب ت ث سينما و يحاول أن
يتلمس يديه في الظلمة كمحاولة لصناعة فيلم روائي طويل بجهود ومعرفة متواضعة (جدا) حاله
كأحد شخصيات عالم غوزيه ساراماغو في روايته (العمى).إذن لا شك أنهم يقصدون الجرأة الاجتماعية
, بمعنى أن هنالك جرأة في الطرح المجتمعي الذي قدمته الشخصيات عبر قصة الفيلم وهنا
وقعت في لجة من الفكاهة مع نفسي والتساؤل, هذا الفيلم (أي ملكة الليغو) لا يمكن أن
يقترب حتى بمقدار العُشر من أي فيلم مغربي أو عربي يحتوي جرأة إجتماعية في الطرح ولنا في السينما المصرية القديمة بالأخص (هيلٍ
بلا كيل) إذا ما كنا نتحدث عن الجرأة الأخلاقية تحديدا وهذا أمر لا يختلف عليها
إثنان.
إذن جل الموضوع
حول هذا التعقيب يتمثل في عدم معرفة الأخوة من نقاد أو إعلاميين ممن حضروا
المهرجان بأن ما جاء في الفيلم هو يوميات (عادية جدا) لفتاة عُمانية شابة تسكن في
مسقط, ولكن وبسبب الأعمال الخليجية والعُمانية التي نقدمها إلى العالم أولا ولقلة
الإطلاع عن المجتمع العُماني ثانيا ربما جاء هذا التعقيب ووصف الفيلم بأنه جريء. ومن
هذا السياق وبعد هذه المقدمة دعوني أغوص قليلا في الموضوع الذي أريد الحديث عنه
عبر هذا الطرح.
هل توجد لدينا
سينما فعلا في عُمان؟ قطعا لا واقولها بثقة. لأن السينما بمفهومها الحر القادر على
التكيف مع نشأة ومسارات المجتمع والأحداث وذلك عبر الطرح الشفاف والملامس للواقع
لا وجود لديها معنا. نحن عندما نقرأ ونشاهد أعمال لمن سبقونا من رواد السينما
العالمية أجانب أو عرب (بدون ذكر أسماء) سنجد السينما التي تلامس الحرية كثيرا لتتحدث
عن القضايا الملحة والإنسان بهمومه قديمها وحديثها وما السينما إلا ذاكرة بصريةٌ للشعوب؟
ولكن في بلدنا لا توجد لدينا سينما بهذا المفهوم وإنما يوجد لدينا ما يمكن أن نطلق
عليه (سينما حكومية). لماذا نستغرب هذا المصطلح؟ نعم لدينا سينما حكومية حيث تدخل الأعمال
الفنية التي يقدمها صناع الفن العُمانيون من مسرح وتلفزيون وسينما وغيره في مخاض
مرهق يمارسه مقص الرقيب على النصوص والأعمال. إذن نحن لدينا توجه وإنتاج حكومي في الفنون،
ولنقل في السينما على وجه الخصوص طالما أننا نتحدث عن السينما هنا. كمية كبيرة من
اللاءات والموانع التي يجب أن يقف عندها
كاتب سيناريو الفيلم قبل حتى أن يبدأ في التفكير بمعمارية القصة في فيلمه بل وربما
حالما تتوارد إلى ذهنه فكرة ما يرغب في نقلها إلى عين المشاهد. هذا التوجه الحكومي
في رسم خط سير للفنان هو توظيف للفنان لا طرح لفنه. الفنان ليس موظفا لكي تضع في
يده ورقة (كتالوج) تحتوي إرشادات تملي عليه ما ينبغي أن يكون في نصه أو فيلمه وما
لا ينبغي أن يكون. لماذا نمارس الرقابة والوصاية الأبوية على نصوصنا السينمائية ؟.
وقبل أن يفهم أحدهم طرحي بمنحى سلبي أو متشدد , لا أعني هنا الإنفلات وترك
الفنانين يكتبون ويصنعون ما يريدون, ولكن أتحدث عن ترك مساحة أكبر في فتحة النافذة
في بيت النص السينمائي الذي يملكه ويقيم فيه صانع الفيلم أو كاتب السيناريو العُماني
عله ينير ذاته أولا ثم مجتمعه ثانيا بما يطرح إذا ما اتسعت فتحة النافذة. نعم
هنالك تحسنٌ نوعا ما في مقدار الممنوع الذي يمارسه مقص الرقيب مؤخرا ولكن ما يزال
هذا القدر غير كافٍ لإنتاج أفلام سينمائية عُمانية تستطيع أن تخاطب وتلامس و(تنافس
)كذلك.
هل تعلم
حكومتنا الرشيدة أن أثر التوجيه الرقابي في النصوص والمؤلفات والأعمال الفنية
السينمائية ساهم في خلق أزمة رفض للمشاريع الفلمية العُمانية التي تطرق صناديق
الدعم الدولي في مختلف بقاع العلم. كأحد الذي حاولوا وما يزالون يحاولون طرق هذه
الصناديق للحصول على دعم لأفلامي أجدني تقريبا أواجه ذات الأزمة. معالجة النص. حيث
يأتي الرفض غالبا لكون النص يتقوقع بخوف خلف قدرات كاتب السيناريو الأصلية ولا يصل
إلى مرحلة كافية من الجرأة في الطرح (مجددا لا أتحدث عن الجرأة الأخلاقية والمشاهد
المنافية للأخلاق هنا فنحن شباب واعي محافظ يعي الأدب العامة ومكارم الأخلاق) ولكن
أتحدث عن الجرأة التي نراها في المشاريع الفلمية العربية والعالمية الأخرى , جرأة
الطرح والمعالجة والتناول. نحن ككتاب سيناريو لا نستطيع أن نقدم نصا جريئا مرنا
الى هذه الصناديق لأننا نعلم أن الرقابة لن تسمح بإجازته وسينتهي مصيره حبيس
الإدارج أو أن يتم (تغييره) إلى شيء مختلف لم يكن كاتب السيناريو أو صانع الفيلم يرغب
به أصلا (قص وحذف وتعديل).
في خضم هذا
التوجه في العمليات الرقابية ما الذي تتوقعه أن يُقدم صناع الأفلام في عُمان؟
سينما حكومية لا أكثر ولا أقل وليست سينما بما نعهده وقرأنا عنه ودرسناه وشاهدناه.
فلماذا يلومنا الكثيرون في المهرجانات والمحافل السينمائية العربية في مسألة الطرح
المباشر والوعظية والتوعوية في وقت نحن تربينا على هذا المساق عبر التلفزيون
والمسرح مذ عرفنا التلفزيون والمسرح وحتى التأليف. ما الذي ينتظره أولئك من أجيالٍ
من صناع الأفلام لا تستطيع أن تخرج بشكل كافٍ عن نطاق المباشرة والتوعوية بحكم ما
تربت عليه وما يمارسه مقص الرقابة الأدبية والفنية عليه؟ أليست أغلب أفلام صناع
الأفلام العُمانيين (أتحدث عن الأغلبية الساحقة هنا) تتحدث عن القرية والموروث واللباس
والهرجة الُعمانية والقصص العُمانية المؤطرة وكأن هذه المعالم هي معيار لنجاح
الفيلم العُماني وتقبل الجماهير له. ربما في سينمانا فقط نرى سطوة القرية على المدينة.
فالقرية وبيوت الطين ومزارع النخيل وقنوات الفلج والحرف التقليدية هي محاور بناء
الفيلم في أفلام الجيل القديم والحديث من الشباب (وأنا منهم). بينما تقبع المدينة
بلا مساس، وكأنه لا يوجد بالمدينة بشرٌ ولا أرواح ولا قضايا ولا هموم ولا أحداث
تستحق الرصد والطرح والتداول.
الإحصاءات تشير
إلى أن حوالي أكثر من نصف سكان عُمان بقليل هم عمانيون والبقية هم أجانب من جنسيات
أخرى ولكن هل تساءلنا مثلا ماهي فضاءات التعبير والطرح المفتوحة لهذه الشريحة؟
تحدث في أحد الأيام مع أحد الزملاء الهنود وهو يملك أستوديو صوتي في مطرح. كان
نقاشا حرا بسيطا أثرنا فيه تساؤلات عن مدى وجود صوت للأخوة الأجانب الذين يقطنون
مدن عُمان الكبيرة مثلا؟ همومهم وقضاياهم الملحة , تفاعلهم مع ما يدور في المجتمع,
ماذا لو كانت هنالك محطة إذاعية يقدمها الأخوة البنجاليين بلغتهم الأم في السلطنة ؟ لنتخيل مدى الأثر
الاجتماعي والسلوكي الكبير الذي ستساهم فيهم هذه الخطوة. لا يمكننا أن ننكر أن
هنالك جاليات تعيش في المدن العُمانية وتعدادها قد يفوق تعداد العُمانيين في تلك المدن.
أوليس هؤلاء جزء من نسيج المجتمع؟ أولم يفني الكثير منهم عمره كادحا في هذه الأرض؟
هذه فكرة عابرة في خضم ما نسميه بقضايا وهموم المدن. المُدن في حضارات الشعوب هي
منارات الأحداث وملتقى الحضارة والعلم لصناعة الإنسان فأين قصصها وقضاياها في
أفلامنا العُمانية ؟ هل ينبغي أن نحضر القرية والموروث إلى كل فيلم نعمل عليه لكي
نقول أن لدينا سينما ما ؟ أليس الشباب العُماني المتمدن مثلا يحمل من قضاياه
المدنية الشيء الذي يمكن أن يُطرح في السينما ؟ هل لدينا أزمة في التفريق بين
السينما كطرح إنساني إبداعي وبين السينما كواجب للتوطين والتأصيل ؟ لماذا نستهجن
أن نرى شاباً عُمانيا يظهر في فيلمٍ ما بقميص وبنطلون مثلا في وقت نحن نعيش في المدن
ونشاهد شبابنا يلبسون القميص والبنطلون ؟ هل الدشداشة والعباة هي فرض عين وهما
الستر لا غيره؟ لا أذكر وأنا الأربعيني أن قرأت ما يوجب ذلك في كتبنا الدينية. هل
المعيار الخُلقي للإنسان هو لباسه مثلا ؟
عودة إلى تعقيب
الأخوة المغاربة (بالمهرجان المذكور أعلاه) في فهمهم للجرأة. من الطبيعي جدا أن
يأتيني ذلك التعقيب فالأخوة هناك يظنون أننا في الخليج نعيش وفق ضوابط رسمتها
أفلام هوليوود أو أعمال معينة أو ما تقوله الأخبار والمواقع الالكترونية .يطنون أن
المرأة الخليجية والعُمانية(طالما أننا في
لب السياق) هي ربة منزل أو أخت لا تغادر البيت لاتحتك بأفراد المجتمع , لا تُحب لا
تفشل لا تنجح لا تعزف الموسيقى لا تلعب الكاراتيه وربما مضطهدة لا تلتقي بقرينها
الذكر في مساحات معينة وفق إطارٍ مقبول . نعم عُرف ويُعرف عنا أننا مجتمع محافظ
ولكن كلمة المحافظ هنا تحتمل الكثير والذي لا يتسع المجال للحديث عنه (ولست أهلا
لذلك). بلا شك , المحافظة لا تعني عجز المرأة أو الشابة العُمانية عن ممارسة
أنشطتها المدنية والاجتماعية بكل حرية ويسر في بلدٍ عُرف عنه تمكين المرأة
والتسامح يكفل القانون علاقات أفراده ومؤسساته. لدينا من الشابات العُمانيين من
أثبتن وجودهن في مختلف المنصات والمحافل والملتقيات والإنجازات على مر عقود من
السنوات. وعندما نعيد التفكير في أحد أهم أسباب هذه النظرة من الأخوة خارج السلطنة
وخارج الخليج للمرأة في مجتمعاتنا سنأتي نحن في مقدمة الأسباب، وأعني هنا بنحن هم
مجتمع صناع الأعمال الدرامية والسينمائية. نحن من قمنا بتصدير جزء من هذه (المحافظة
المقننة المقولبة) عبر أعمالنا (التوعوية غالبا) وتكثيف الطرح حول الهوية والموروث
والعمارة والبيئة القروية بشكلٍ عام. ففي الخليج وعبر أعمالنا السابقة نحن نقول لهم هكذا نلبس وهكذا نعيش
وهكذا نتنفس وهكذا نتحرك وهكذا نفكر رغم أن هكذا ربما هي ليست هكذا أبدا.
في سينما عُمان
من النادر أن تجدنا نحتفي بالمدينة والمدنية العُمانية، بهمومها وتكوينها
وارهاصاتها وفضاءها الواسع وتفاعلها مع يحدث خارجا. لدينا من القصص والقضايا التي
تحدث في المدينة وتمس شبابنا وصغارنا الشيء الكثير وأكثرها مواضيع ملحة ومعاصرة
جدا تستحق أن تقترب منها يد السينما وتضعها أمام المشاهد. وعندما نتحدث عن المشاهد
العُماني كذلك أعتقد أنه ان للمجتمع ان يخرج قليلا من جلباب أبيه الذي تعود عليه
في الأعمال الفنية ويحاول أن يتقبل أعمال معاصرة تناقش قضاياه لا سيما قضايا شبابه
كما نرجو من الجهات المعنية بإجازة النصوص والعروض الفلمية أن تفتح قلبها قبل
عقلها أكثر لتقبل طرح الفنان العُماني صانع الفيلم لتنظر إليه بنظرة الإنسان
الفنان قبل المواطن. بالمختصر، نحن بحاجة إلى موجة جديدة من السينما العُمانية
تستطيع أن تلامس هموم الشباب وقضاياهم أينما كانوا في قراهم أو مدنهم أو حتى في
بلدان الإغتراب. نحن بحاجة إلى سينما لا تشطح عن المقبول ولكنها تسعى إلى المأمول
والمُتغير الحميد لكي تستطيع الاستمرارية ويُكتب لها بين دول العالم وصفٌ أنها سينما بحق.
