لعنة الكلمات في إطارٍ
من الوهم
قراءة إنطباعية لفيلم
عيسى الصبحي "وهم"
في خضم المحاولات
العُمانية الشابة التي تتسيد ساحة الإشتغال السينمائي في الوطن الذي ما يزال يتلمس
طريقه في عتمة التجارب وإضاءات النجاح الأقليمية المحدودة، هنالك تجارب يمكن أن
تُقاس بالمسطرة والقلم مروراً بعملية قيصرية بين فهم ماهو مستقل وما هو تجاري في
هذا الإشتغال.
إنه من المُلفت
حقاً أن تشاهد صناع أفلام عمانيون لا يتجاوز عددهم أصابع اليد العشرة يحاولون
تقديم طرائق مختلفة في تقديم القصة والقضية داخل أفلامهم في عملية أشبه ما تكون
كمحاولة للهرب من سطوة التعايش والتصبغ التلفزيوني والمسرحي الطويل الذي يسري في
عروق فناني الصورة المتحركة بيننا. ومن هذه الأسماء يمكن أن نذكر المخرج الواعد
عيسى الصبحي إن شئت أن أضعه في هكذا سياق هو بلا شك أهلٌ له. والخوف كل الخوف أن
يضمحل هذا العدد (العشري) نتيجة لعدة ظروف نعلمها جميعاً في حقل صناعة الأفلام السينمائية
, فكرة الإضمحلال بحد ذاتها مقلقة جداً.
بين توجه
أندريه بازان في فهمه لأفلام الواقع حيث يعتقد أن الفيلم السينمائي يجسد ويحاكي
الواقع – ما يتجلى مثلا في إيمان بازان بالصورة الساكنة كأحد المدخلات بالموضوع - وبين توجه سيرجي إيزنشتاين الذي يعتقد أن الفيلم
لا يحاكي ولا يجسد الواقع وإنما يقدم تفسيرا له, نأتي لفرجة لفيلم عُماني صانعه
برز في صنف الأفلام الواقعية " الأسود لا يليق بك " كنموذج ويأتي اليوم
ليقدم لك فيلما مُتخماً بالرمزية, نتحدث هنا عن فيلم " وهم" الفيلم
التجريبي القصير الحائز على جائزة أفضل فيلم خليجي قصير بمهرجان أفلام السعودية بنسخته
الحادية عشر – مع تحفظي على تصنيف الفيلم كفيلمٍ تجريبي -.
كمُتداخل أو
ربما طفيلي مرغوبٌ به – وأعني نفسي هنا- , جمعتني عدة جلسات ونقاشات مع مخرج الفيلم
الصبحي وكان من الواضح أن التجليات والمؤرقات التي تدفع الصبحي لصناعة أفلامه هي
تجليات واعية شخصية إذا ما قيست بالرغبة العارمة في تقديم شيءٍ مختلف حتى وإن كان
في قالب الهوية المتعارف عليها( هوية المكان والفراغ واللهجة والملبس والصوت..الخ)
وجل هذه التجليات والمؤرقات تتقاطع بتعارض مع النزعة التقليدية في صناعة الفيلم
العُماني كما عشناه وتعودنا عليه لعدة سنين من عمر الزمن. أن يعود الصبحي لإخراج
فيلم يرتكز على رمزية عالية بعد رحلة إنجاز مع فيلم يرتكز على واقعية مدقعة لهي
مغامرة مثيرة وخطرة أشبه بعبور رائحة عطر غانية في مقهى لم يعتد رواده إلا رائحة
البخور والثلج والتبغ وقت الصيف. الصبحي حذرٌ جدا وقلقٌ جدا حينما يتعاطى مع تجربة
صناعة فيلم وعادةً لا تمثل له هذه التجربة مرور كرام أو تحصيل حاصل. ربما هذا أحد أسباب
إعجابي بهذا الشاب.
كان الشعور
الأول الذي راودني حالما أنتهينا من عرض فيلم "وهم" – أشكر سريال على جلسة
المشاهدة المثرية هنا – هو شعورٌ غامر بالجوع والتعطش وعقبت عليه مباشرة حينها بأن
هذا الفيلم كان مخنوقاً بما يشبه الذكاء. حيث كانت الخطوط الدرامية بتلك الدرجة
التي تخلق النهم في نفس المشاهد لطلب مشاهدة المزيد كما أنها كانت مخنوقةً في فيلمٍ
كان له أن يمتد لأكثر من 21 دقيقة ولكن طريقة إزجاء الرمزيات المختلفة بالفيلم
كانت من الذكاء بمحل.
السرد:
فمن ناحية
الفكرة والموضوع كانت تجربة الصبحي الفلمية مستندة ً إلى حدٍ ما لتجربة شخصية
(إقتباسا لا نقلا مباشر) حرص على تقديم محاولة فهمٍ لها بطريقته الخاصة. قصة الرجل
الذي يعاني من حالةٍ نفسية تُعاني في خضم مشاهدة تناقضات البشر وتبحث عن منفذٍ ما للهرب
من نفسها المخنوقة المحطمة. التطرق لهذا الموضوع يُحسب للصبحي كناحية من نواحي
التجديد التي قل أن نراها في الأفلام العُمانية السائدة والتي تركز على القرية
والإرث والتقاليد فكان موفقا في تقديم موضوعً حديث بفكرة رائعة. مكانٌ وزمانُ
حديثين مع شخصيات مُحددة قادت سير الأحداث. وعندما نتحدث عن الأحداث , وجدت أن
الحبكة في الفيلم تعاني من بعض الترهل والحشو اللامرغوب من حيث وجود بعض المشاهد والحوارات
المباشرة التي كان بالإمكان الاستغناء عنها – لا سيما في فيلم يُقدم رمزية عالية –
ذات الحكبة التي تضمنت نقصا في بعض الأحداث التي كان من الممكن أيضا أن تضيف عمقاً
ومصداقيةً أكبر لدى المشاهد في طريقه لفهم الفيلم والرمزيات التي تطُهى وتُقدم
لمائدة عينيه. أما بناء الشخصيات فكان مرضياً إلى حد ما فسرني كثيراً أن أرى إنتقال
الشخصية الرئيسية من حال إلى حال وهي ترتل زمكانيا بين اثنتين من مساحات التضاد
(قرية – مدينة). تمنيت هنا أن أعرف أكثر عن الشخصية الرئيسية وأعرف قصتها الخلفية
والمأل الذي دفعها كاتب السيناريو للظهور أمامنا بتلك البنية والتجسد.
أما فيما يتعلق بالرمزيات والتناقض والتضادات فلقد كان كلاً من كاتب السيناريو والمخرج بوصفه السارد البصري للقصة واضحين وموفقين في تقديمها لأعين المشاهد مباشرةً ولنا هنا أن نحيي كلاهما على القدرة في طرح مدخلات رمزية بطريقةٍ مباشرة بصرياً. نجد في خضم هذه التناقضات المجتمعية وجود الصالح والطالح المحروم والمحظوظ الواهم والمؤمن , الساكن والمتحرك, النظيف والملوث بل والمتعلم والجاهل. وأختم حديثي عن جزئية السرد في مشهد البحيرة بالفيلم والذي إرتبط مباشرةً بالعبور والتطهير, أحدى الثيم التي لطالما سحرتنا في عدة أعمالٍ خالدة من السينما العالمية.
وأما عن الحالة
الوجدانية, فلقد ساعدني هذا الفيلم لمحاولة فهمٍ أكبر لضعف الإنسان وما يمر به من
قلق تجاه النفس والمحيط. تأملاته فيما هو مستحق أن تتفاعل معه وفيما لا يستوجب أن
تعيره إهتماماً ولنقس على ذلك الرغبة في الحياة ذاتها. البطل في الفيلم غارقٌ في
الهرب مما حوله ليحاول أن يعيد تشكيل مشاعره وأفكاره مجددا لتتناسب بما يدور حوله
حتى وإن لم يرغب بذلك اصلاً. أن تشعر بأنك لا طاقة لك ولا روح في أن تعيش وفق ما
يقوم الأخرون بتفصيله لك على مقاسهم ويتحتم عليك أن تعيشه رغماً عن نفسك المنهارة
التي تغدو ذهاباً وعودة في محاولة للفهم والإدراك. أن تشعر بأن تلك المعركة مع
الحياة والوجود مرهقةٌ حقا لا نهاية لها وقد تقودك إلى الجنون في وقتٍ أنت لا تفهم
ولا تعي فيه نفسك وتشعر أن الأخرين لا يفهمونك أيضا وربما يكونون مجرد عبيء تتمنى
وجوده لتشعر بأنك إنسان طبيعي. إنه من المأساة والملهاة معاً أن نعيش في هذا
العالم بقناعات لا تستوعبها أرواحنا وتكاد تبتلعنا وتبصقنا كيفما تشاء.أليس كذلك؟
التصوير:
نقلنا الصبحي
عبر عدسات كاميرته (الأري كلاسيك ) في بُعدين بالكادر فشكل لنا تكوينات تتناسب مع
الحالة المزاجية للشخصية بالمدينة والحالة المزاجية في القرية وذلك بإجادة وضع
أحجام اللقطات المناسبة في الحالتين, فنرى اللقطات المقربة والمتوسطة للمواضع التي
كانت بها الشخصية في المدينة وما تمر به من ضيقٍ وكرب وأختناق ثم نرى اللقطات الواسعة والواسعة جدا للمواضع
التي كانت به الشخصية في المدينة وما تمر به من راحة وإنفتاح على الحياة. ومع وجود
تركيز غير مفهوم أو مبرر لسطوع مستمر – أزعجني في النصف الثاني من الفيلم-
بالإضافة إلى بعض الإهتزازات والخِلة في حركة الكاميرا في بعض المواقع التصويرية –
الشيء الذي برره المخرج بصعوبة التصوير في عدد من المواقع الجبلية – نستطيع أن
نلاحظ الفرق في النتاج البصري للفيلم بين عمليات التصوير في المدينة والتي كانت
هادئة نظيفة مُتحكم بها وبين عمليات التصوير في القرية الجبلية والتي كان يشوبها
بعض العيوب. أما عن الألوان المستخدمة بالفيلم فوجدتها مريحة تتماشى مع توجه
المخرج في تقديم فيلمٍ قلق يتحدث عن القلق ويرغب في أن يكون المشاهد قلقاً وهذا ما
كان له أن يكون.
الصوت:
من العناصر
التي أزعجتني شخصيا بالفيلم كانت الموسيقى. برأي الشخصي أن الموسيقى تكاد أن لا يكون
لها محلٌ من الإعراب في هذا الفيلم. والسبب الوحيد لذلك هو الفضاء المتخم بالعناصر
الصوتية الطبيعية التي تمنيت أن أراها في الشطر الثاني من الفيلم ( شطر أحداث
الجبل) ولكن المخرج حرمني منها واستعاض
عنها بموسيقى ليكرس الرحلة الزمنية والتنقلات التي خاضتها الشخصية فور وصولها إلى
الجبل بما يشبه الكليشيه الذي تعودنا أن نراه في فئة أفلام الطريق. كما أن بعض
الحوارات إتسمت بسمةٍ من المباشرة وإن كانت طفيفة بينما أخذ الباقي منها مكانه
وموضعه الصحيح تماماً. و في حديثنا عن الحوارات شعرت كمتلقٍ وصانع أفلام أنه
(ربما) طبيعة السيناريو المخصص لفيلم مستقل كانت تجربة جديدة للمثل المخضرم بالدور
الرئيسي والذي إعتدنا رؤيته في المسسلات الدرامية المختلفة, ولأكون صريحاً وعادلاً
هنا, كان الممثل في قمة عطاءه وتألقه في عدة مشاهد من الفيلم لأنه وجد فيها مساحته
التي يُعطي فيها بينما غاب هذا الوهج والتالق في بعضٍ من المشاهد الأخرى بحيث لم
يوصل إلى ذلك الشعور بالمعاناة والتشتت والبحث عن المخرج المأمول لمشكلته, ربما
كان النص أحد الأسباب وربما كانت التجربة الجديدة هي السبب.
ختاماً:
عندما ننظر للفيلم
السينمائي بمنظور يتجاوز الإستحقاق والجوائز أو السلعة أو التسلية والترفيه
ونستبدل كل هذا لنراه بمنظور الموقف والفكرة (موقف المخرج وفكرته) سنعجب ونحب
حتماً فيلم " وهم" وسنراه بتلك النظرة التي إستطاع فيها المخرج أن يخلق
شيفرة مع المشاهد من خلال عناصر الفيلم وإن كانت تلك الشيفرة يشوبها بعض النقص
والتقصير في بعض الجوانب. فالصبحي قدم لنا فيلما يحاول أن يخلق إتزانا بين الشكل
والمضمون وعبر عن عدة هواجس شخصية تهمه وتلامسه وقدمها إلينا في فيلمٍ روائيٍ (ولا
أقول تجريبي) قصير.