الاثنين، 20 يناير 2025

شيءٌ من عباس كياروستامي - الجزء الأول من رباعية فلمية ( Where is the friend's House )

 



رباعية فلمية: شيءٌ من عباس كياروستمي

الفيلم الأول:

Where is The Friend House

 

حيث أن للصوت خارج الكادر مع الصورة الثابتة سحر وإيقاع مختلف يشد المشاهد ويُثبت حواسه في حالة شعورية واحدة ألا وعي الترقب لما سيأتي بعده، يستفتح فيلم المخرج الإيراني الكبير عباس كياروستامي "أين يقع منزل صديقي" أولى مشاهده ببابٍ موصد لفصلٍ دراسي نسمع ما وراءه من أصوات لمجموعة من الطلبة الصغار وهم في حالة من الفوضى والصراخ. ويُصاحب هذا المشهد الموبوء بالترقب والصخب ظهور عبارة على الشاشة ألا وهي معهد التنمية الفكرية للأطفال والشباب كإحدى الجهات الراعية للفيلم كون كياروستامي هو أحد مؤسسي قسم الإخراج في هذا المعهد مع بدء موجة السينما الإيرانية الجديدة في السبعينات ثم إنتاج أول فيلم لهذا القسم للمخرج ذاته حمل عنوان " الخبز والشارع " والذي صرح عنه كياروستامي قائلا: الخبز والشارع أول تجربة سينمائية بالنسبة لى، وقد كان صعباً جداً. فقد كنت مضطراً للعمل مع طفل صغير وكلب وفريق غير محترف.


عودة ً إلى فيلمنا موضوع الإنطباع، ندخل مباشرة في المشهد التالي الذي يصور لنا مجموعة من الطلبة الإيرانيين صغار السن ودخول معلم الفصل عليهم ليوبخهم قليلا ثم يبدأ في التنقيب عن واجباتهم المنزلية وصولاً إلى إكتشافنا لحادثة إهمال الصبي محمد رضا في الاهتمام بواجباته ودفتره المدرسي. في هذا المشهد الذي جاء أولا ثم أخيرا في نسق سير المشاهد بالفيلم سنشعر بحجم وكمية التفاصيل التي وضعها لنا كياروستامي في السيناريو الذي كُتب بدقة متناهية. سنبحر مباشرة في شاعرية كياروستامي وبساطة الطرح المعنوي والموضوعي ونحن نستمع إلى حوارات الشخصيات بين المعلم وطلبته. والذي سيمعن التركيز منا سيجد أن محور الحوارات في هذا المشهد المهم والكبير هو كمية الصعوبات والمشقة التي كان يعانيها الطفل الإيراني ليحصل على قوت يومه من العلم وكذلك تعزيز مبدأ الإنضباط الغير مشروط والذي يبدو بدهيا لا سيما في ظل سنوات ليست ببعيدة  من نجاح الثورة الإسلامية في إيران .هنالك أربعة أطفال رئيسين في هذا المشهد كانوا حلقة الوصل في تبيان تلك الصعوبة وهم محمد رضا نعمة زاده (الطالب المهمل) و علي حيماتي (إبن عم محمد رضا) وهما من قرية بعيدة تسمى بوشتيه وأحمد بور (بطل الفيلم- الطالب المجتهد) وأخيرا الطفل مرتضى ( الذي يشكو ألما في ظهره). ولنتأمل جيدا في تفصيلة قد تغيب عن المشاهد الغير فطن ألا وهي الطالب الأخير مرتضى الذي صرح مباشرة لمعلم الفصل بأنه يعاني من ألمٍ في ظهره لا يستطيع على أثره الجلوس على الكرسي بشكل جيد, وسنكتشف لاحقا مع تقدم الفيلم أن هذا الطالب مرتضى يعمل مع والده في صناعة الحليب ويدفعه والده لحمل صهاريج ضخمة ثقيلة مما يعزو سبب شعوره بألمٍ دائم في ظهره.


إذن لدينا مشهد إستهلالي ولنعتبره (مشهد ماستر) قاتم شديد السواد يبين لنا مدى قسوة الحياة التي يعيشها طلاب العلم الأطفال داخل الفصل مع معلم لا يعرف سوى لغة الانضباط وخارج الفصل مع عائلاتهم التي تكرس مبدأ الانضباط ولكن بازدواجية مؤثرة تطرح تساؤلا عن القيم الإنسانية العامة وارتباطها بتطبيق الجيل القديم(الأجداد) والجيل الوسطي (الأباء) والجيل الحديث(الأبناء) في مجتمع قروي في إيران في تلك الحقبة. في هذا المشهد حرص كياروستامي على غمسنا في الشعور بالضعف والقهر وإنعدام الحيلة أمام النظام الذي ما ينفك يزجي بالأوامر ويقيم الفرد كجزء من البحث عن تكاملية الجماعة دون مراعاة لإعتبارات أو ظروف أخرى. كانت فتحة النافذة في الفصل بهذا المشهد هي الباعث الوحيد لنفس رطب ما بالمشهد وكان المعلم بين الفينة والأخرى يتوجه بوجهها إليها وكأنه يستمد شيئا ينقصه ليعود مجددا إلى طلابه الضعفاء الفقراء.


أولئك القادمون من قرى الريف أمثال بوتشيه وخنفار وكوكر لديهم وجهات نظر مختلفة للحياة والماضي والمستقبل. ونجد ذلك ماثلا أمام أعيننا بالملامح والحوار في المشاهد التي تلت مشهد الفصل الدراسي حينما نتعرض لعائلة أحمد بور وبقية العجائز في الفيلم. وفي حقيقة الأمر ستجد أن كياروستامي أعطى جل تركيزه على إظهار جيلين من الشخصيات الذكورية هما الأطفال والعجائز في فيلمه وكأن مرحلة الوسطى الذكورية هي مرحلة مهمشة حائرة مبعثرة التفكير والقرار لا يشذ عنها سوى معلم الفصل ( الثلاثيني ربما) . في المرحلة الوسطى التي تكاد تختفي ولا يظهر لها أي تأثير واضح على السلوكيات والتنمية الفكرية للطفل وتشكيل فكره وطريقة تعامله مع الأمور والأوامر على حدٍ سواء. ولنضرب بهذا مثلا والد الطفل البطل أحمد بور الذي نراه شخصيةً شبه عدمية ساكنة لا تؤثر كثيرا في نفس أحمد مثلما تفعل شخصية أمه الوسطى الأنثوية السلطوية الكاسحة. قسم كياروستامي شخصياته على مبدأ الأجناس والعمر وتأثير هذه العوامل في تشكيل بيئة الحياة القروية الريفية بالمجتمع الإيراني. فنجد العجوز الذكر المتسلط الذي لا يرى من مكافأت الحياة متمثلةً كنتائج جيدة في السعي للإنضباط الكامل وتنفيذ الأوامر دون مناقشة (مرجع لقصة المهندس والعمال التي يحكيها جد أحمد بور) دون أن يتفهم هذا الجد أن للطفل مأربه وبراءته و رغباته مصراً على ترسيخ كون الطفل ألة لتلقي الأوامر وتنفيذها فقط وبطريقة براغماتية عملية ويحضرني هنا مفكر ولياس جيمس أحد أشهر فلاسفة البراغاماتية حيث يقول أن المنفعة العملية هي مقياس صحة الشيء.  كما نجد الأم (أم أحمد بور) التي نراها كمثال صارخ لربة البيت التقليدية التي تحافظ وبطريقةٍ قاسية على تمشية أمور منزلها بما يتفق مع مصلحة المنزل فقط ضاربة ٍ بعرض الحائط ما دون ذلك. حتى في اللحظات التي كنا نراها معالم الفضيلة والأمانة شاخصة في طفلها أحمد الذي كان يلح ويصر على أن يُرجع الدفتر إلى صديقه محمد رضا نعمة زاده -وإلا سيتعرض محمد رضا للطرد- كانت الأم ماتزال ترى أن مصلحة أبنها (بيتها) هي العليا ولتذهب بقية المصالح إلى الجحيم. ونجد أيضا الطفل بطلنا نموذج القيمة الإنسانية الرفيعة الشفافة والمرهفة أحمد بور الذي يجسد قيم الوفاء والإصرار والشجاعة والعزيمة. أحمد بور الطفل (وهو يحمل نفس إسم الشخصية بالفيلم) كان بمثابة الثائر على فكر مجتمع قروي يقدس ويرسخ الانضباط الغير مشروط فنجده ملحاً مصرا. حينما تتأمل وتسمع إيقاع حوارات الطفل بالفيلم تتجلى لديك سعة من الطرب الموسيقي الذي تستلذه في الشعر وتشعر أن حوارات أحمد مع أي شخصية يجدها بالفيلم هي أبيات شعرية كُتبت بلا اتساق وبعفوية مطلقة جعلتنا نصدقها بوجود ذلك الوجه البريء الحائر الثائر لدى أحمد. ونجد أيضا شخصية الأب (والد أحمد بور) الذي نسمع عنه في بداية الفيلم ولا نراه إلا في مشهد واحد فقط في وقت متأخر من الليل صامتا دون أن ينبس ببنة شفه .كانت لغة العيون وتفصيل حركة الجسد في عيني والد أحمد باهتة ولكنها مكتومة بشيء ما يشعرك بخليط بين مشاعر العجز والقوة في إن واحد. ونأتي لشخصية الجدة (جدة أحمد) التي ربما تكون من مدرسة الإنضباط السلوكي إياه ولكن بشكلٍ أخف يقترب من حنان الجدات وطيبتهن. جدة أحمد كانت ترى الإنضباط منهجا تعليميا لا يشترط فيه العقاب مثلما كان يراه المعلم وجد أحمد وأمه. وأخيرا نأتي إلى شخصية الجد صانع الأبواب الذي يُعبر وبكل إندفاعية عن تلك الفجوة الحاصلة بين الجيل القديم والجيل والوسطي حيث ربطها بمهنة صناعة الأبواب وتلك الرمزية الرائعة بين قوة ومتانة أبواب الخشب وقيمتها وبدء سطوة الأبواب الحديدية, شاعرية جميلة جدا تدفعك إلى تخيل صور من بواعث قيم الإنسان كالتمسك بالجذور ونوستالجيا العيش في الماضي ذو المساحات المعرفة المحددة. هل كان هذا الجد أيضا أحد عناصر الإنضباط التي لا ترى في الجديد القوي قيمة ؟ هذا السؤال يُترك للجمهور وأحاسيسه وفهمه.


وبعدما تطرقنا إلى الشخصيات بالفيلم, دعونا نتحدث قليلا عن الصورة في هذا الفيلم. حيث جاءت اللقطات الثابتة الغزيرة والقليلة المتحركة بشكل متسق مع تركيز كياروستامي على حكي القصة أكثر من تركيزه في جماليات الكادر والتي بوجهة نظري الشخصية جاءت جميلة عفوية بلا تصنع ولا صنع حيث تغذيها جالمية البيئة القروية الريفية التي تجري فيها أحداث القصة من بيوت وطرقات قديمة ومساحات خظراء ويابسة تارة. لا يمكن أن تتجاهل مشاعرك أو تخفي إنبهارك بتلة التلة الخظراء اليابسة التي قطعها أحمد ذهابا وأيابا في رحلته للبحث عن منزل صديقه محمد رضا. كانت تلك التلة بمثابة الحاجز أو محطة العبور بين قرية كوكر وقرية بوشتيه مربطي فرس أحداث قصة الفيلم.وكأن أحمد بور كان يسعى بين الصفا والمروة مهرولا في تلك التلة مدفوعا بحمى أيمانية مبعثها الوفاء لصديقه ورغبة في إنقاذه من خطر قد يهدد مصيره بإقصاءه من المدرسة وفقده للفرصة التعليمية في زمن يحتاج بشدة إلى العلم والمتعلمين.كان أحمد في صعوده تلك التلة كشاعرٍ يحمل رسالةً مقدسة هاربا من السفلي نحو العلوي, فالسفلي هو معايير وقسوة وسلوكيات مجتمع وازدواجيته في النظر إلى الأمور والعلوي كان الأمل والحلم بشيء جديد يسمى التغيير للأفضل عبر التمسك بالإنسان وهمومه اللحظية الحقيقية. وأنا أتامل تلك التلة حضرني بيت أبو قاسم الشابي: ومن لا يحب صعود الجبال، يعش أبد الدهر بين الحفر". كانت ألوان الفيلم خلابة بشكل عفوي أنتقلت بين الأصفر والأخظر الفاتح والبرتقالي والبني المشبع. هي ذات الألوان السينمائية التي تتناسب تماما مع الجو العام للريف والقرى الجبلية.


ختاما لهذا الجزء، نلاحظ أسلوب كياروستامي الإخراجي الذي سخره لتوطين مجموعة من القيم الإنسانية مثل قيمة الحياة والموت والتغيير وارتباط هذه القيم بالمجتمع القروي الذي ربما يكون وعاء عذراء للصورة السينمائية. كيف كانت المشاهد الطويلة ذات الحوارات المقتضبة المختصرة باللقطات الثابتة باعثا لتأثرنا وتركيزنا على أحداث قصة الفيلم. كيف كان يطلعنا على المنظور بوجهة نظر الإنسان المتابع. كمية الفكاهة والشاعرية المتجسدة في الكثير من مشاهد الفيلم واستخدامه لتقنيات السرد البصري بتمكنٍ عال جدا.


أما خاتمة الفيلم فجاءت مشفيةً للغليل بعد كل ما سبقها من تعنت وتسلط وقمع وأنانية ومغامراتٍ طريفة, حيث تمت العدالة لمحمد رضا بمساعدة صديقه الوفي أحمد بور, ولنسميه المنقذ الحقيقي لمصير إنسان في بداية حياته.


هيثم سليمان

سيناريت ومخرج سينمائي

20- يناير - 2025 م