""""البوعلي في مد جينجا , الصورة خلف الحوار"""
حيث أنني ومنذ المقالات الثلاثة السابقة
أتحدث عن الحوار في السيناريو السينمائي وطبقاته المختلفة , أحببت أن استعرض
ملامحا من قراءتي لكتاب " ذكريات من الماضي الجميل " للدكتورة اسية
البوعلي (الطبعة الأولى مايو 2015 مطابع النهضة), كنموذج رصين وصادق للحوار العميق
وإن اتخذ قالبا أخر غير السيناريو ليكون محتوىً فيه. كتابُ اقل ما أصفه به هو
الصورة خلف الحوار .ولسنا هنا في ابحار بعيد عن عالم كتابة الحوار في السيناريو
لأن القارئ المتأني المشتغل في حقل الفن السابع بالذات سيدرك ومنذ السؤال الأول (
المقابلة الثالثة, الأحد الثالث من أغسطس) الذي طرحته البوعلي على فاطمة جينجا الأديبة
العُمانية الغامضة الحاضرة سيدرك أنه يُشاهد فيلما تسجيليا - ولن اقول وثائقيا – مشاهدة قرائية , ذلك النوع
من المشاهدة التي تتخيل فيها ويرسم عقلك سلسلة من الصور المبنية على الحوار كأنك
تمسك كاميرا ما تسجل ما يتخيله عقلك من صور. قد نمر بحالة التخيل هذه بكل سهولة
ونحن نقرأ رواية ما بدافع الإندماج التلقائي مع أحداثها لأن هيمنة السرد على ضخ
الصور في عقولنا ستكون بارزة لا محالة , لكن وقوعنا في هذه الحالة فقط من جراء
حوار يدور بين ألسنة شخصيتين في مواضيع ذات زخم اجتماعي وتأريخي شخصي لهو تجربة ممتعة
أبعد من المألوف تستحق الوقوف عليها فعلا.
لم تدخر البوعلي جهدا في محاولة التوغل
الحميد المغلف بالكياسة لاجترار إجابات ذات عمق وبعد نفسي, إجتماعي ,تأريخي من
جعبة جينجا فنراها لا تتورع عن اقتحام السطح الى داخل العمق لسبر أغوار حقائق في
مهمة لوضع اليد على ما كان وما يحمله من تأثير على ما يكون في حياة جينجا. وحينما
نمعن تركيز مؤلفة الكتاب في الإنتقاء المتأني المسترسل لمواضيع الحوار - المستهدفة بأسئلة من العيار الصريح- سندرك أن
ما كانت تسعى إليه وتديره هو حوار عميق اتخذ جوانبا عدة قد تخشى اية شخصية يُجرى معها
الحوار الانخراط فيه والوقوع في لجة تشعبه . ذلك النوع من الحوارات التي نراها في
الأفلام الوثائقية والتي قد يستقطع فيها المُحاوَر لحظات من الصمت والتفكر – وإن كانت
شديدة القصر- ليتعاطى فيها مع المُحاوِر. و في حين تبرز شجاعة المؤلفة في الولوج
في هكذا حوار بل والتوغل فيه الى درجة يظنها القارئ الغير متصف بالموضوعية
"تهجما" , تبرز إلى جانبها شجاعة جينجا في التعاطي مع الحوار بل والتفنن
في اضفاء الحكايا الصورية القصيرة التي تنقلك وبعمق متناغم الى دواخل سيرتها فيما يمكن أن نعتبره مشاهدا تسجيلية تطرحها جينجا أمامنا لتلامس المحسوس واللآ
محسوس من الذكريات. الحوار الدائر في كتاب
البوعلي يقترب من وصف مشاهدة ورقية تخيلية قوامها الصورة المختزنة المختزلة التي
يمكن أن نشاهدها في فيلم تسجيلي معد اعدادا جيدا وحينما اقول تسجيليا لا وثائقيا ,
أعني بطبيعة الحال أن ما جاء على لسان جينجا يحتمل كامل الحقيقة أو قد يحتمل نصفها
أيضا فنحن اذا ما حصرنا أنفسنا في شاشة المشاهدة الورقية هذه , نعي تماما أن
الفيلم الوثائقي يوثق وينقل الحقيقة كما هي بينما يحتمل الفيلم التسجيلي التركيب
زيادة أو نقصانا لدواعي كثيرة يمكن أن نستوحي منها ضعف الذاكرة أو السببية الشخصية
في حالة جينجا كحضور حواري ورقي.
مجملا, كانت البوعلي في عملها التسجيلي
الورقي المخرجة دون مصور , كاتبة السيناريو دون سيناريو فنجحت الى حد بعيد في
تقديم نموذج بالغ العمق والشفافية للحوار
الذي يمكن أن نسمعه في فيلم تسجيلي محترف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أتحمل مسؤلية ما اضعه هنا