السبت، 30 نوفمبر 2024

الزمن والإنسان بلسان بضعة أمتار من المكان "أحدهم نسي كاميرته لعدة قرون هنا"

 




الزمن والإنسان بلسان بضعة أمتار من المكان

"أحدهم نسي كاميرته لعدة قرون هنا"

 

مدخل : مشهد نهاري خارجي لدليل سياحي يقود فوجا من السياح لمشاهدة معلم أثري(مكان) ويحدثهم عنه يبدون في غاية الإبهار والدهشة والتركيز. لنقلب الآية الأن ولنسأل سؤالا واحدا فقط, ماذا لو تحدث المكان عن ما مر به دون حاجة إلى وسيط فانٍ كالبشر, وأعني بالمكان هنا الأرض, تلك المخلوقة التي حكُم عليها أن تشهد مأسي وطمع وسحر البشر وكذلك روعته.

عبر هذا المدخل الذي يدور كحلقة مفرغة في وجدانك وأنت تشاهد الفيلم الرائع   Here

إخراج وسيناريو الأمريكي روبرت زيميكس الذي أتحف أنظار البشرية بالفيلم الأيقوني فوريست غامب بطولة النجم توم هانكس. وعندما نتحدث عن التوافقية بين ذاك كممثل وذا كمخرج ها هما مجددا يجودان لنا بفيلم رائع وبأبسط فكرة ممكنة وبأكبر قدر من العمق تتسع له مساحة السرد البصري والتلقي.

يحكي هذا الفيلم وبلسان بضعة أمتار من مكان ما على وجه الأرض قصص أجيال وأجيال من البشر عبر منظور اللقطة الواسعة لردهة منزل وكيف إنتقلت هذه المساحة منذ عصر الديناصورات وحتى يومنا هذا إلى مكان يضم أطنانا مليارية من المشاعر والأفكار والتجارب وبطبيعة الحال تقادم الزمن. إن هذه الفكرة وبالرغم من بساطتها لكنها تتسم بعمق الطرح وفجائية الوقوع على النفس .لنا أن نتخيل أن شبرا على هذه الأرض وعبر ألاف السنين ؟,كم حكاية في جعبته ليرويها وكم كائنا حيا مر عليه وحفر فيه ذكرى ما. يكاد هول الفكرة يتسق مع بساطتها اللامتناهية. وكأن الحال بالفيلم يقول لك يتغير كل شيء من حولي وأنا الثابت المطلق.

نغوص في رحلة هذا الفيلم بين الماضي والحاضر لنشهد حقبا من تأريخ الأرض قبل تأريخ الأمريكان أنفسهم ونفتح تباعا أقفالا في ذاكرة المواطن الأمريكي والعائلة الأمريكية وما قبلها العائلة البريطانية المستعمرة والإنسان القديم وتفاعلهم مع بعضة أمتار من المكان بينما يهرول الزمن تارة ويلتقط أنفاسه تارة أخرى متمهلا في عرض الفواجع أتراحا وقيم السعادة أفراحا.

 

سبق وأن تحدثت عن قوة اللقطة الثابتة في أفلام المخرج السويدي روي أندرسون على وجه الخصوص فيلم (عن الخلود) إنتاج 2019 والذي ترشح لجائزة الأسد الذهبي لهرجان فينيسيا السينمائي وفاز بها عن فئة الإخراج. في فيلمنا الذي نتحدث عنه تتضح سطوة وقوة اللقطة الثابتة في حكي ما يقارب 100 دقيقة من الأحداث وعدة قرون من الزمن من زاوية واحدة وكأن أحدهم نسي  عبثا الكاميرا الخاصة على حامل ترايبود لبضعة قرون في تلكم الأمتار البسيطة.

هذا الفيلم يتسفز فيك الكثير من الأفكار والمشاعر - وجعلني منجذبا له كثيرا هو نمط دراما أفلام التسعينيات التي صاحبناها نحن أبناء جيل الثمانينات بكل ما تحمله من كلاسيكية شاعرية وقوى أداء الممثل وحنين إلى دراما الصورة البعيدة عن التكلف وسطوة التقنية الحديثة المبالغ فيها- حيث يجعلك تفكر في قيمة الإنسان مقابل الأرض(المكان) ومقابل الزمن وكيف هي ثقافته ووعيه وأنماط تفكيره و مزاجاته تتغير من زمن إلى أخر. لنا أن نعتبر هذا الفيلم توثيقية بصرية لتاريخ مجموعات من البشر تراوحوا على بضعة أمتار من الأرض تملكا أو عبورا.

وحينما نتغاضى عن بعض الهنات في السيناريو ونستوعب استحالة عدم تسارع الأحداث المربك أحيانا في القبض على جميع فواصل تلك القصص التي قدمها الفيلم سندرك أن الفيلم يشكل فرجة بصرية ماتعة مغلفة بالتساؤلات ومحركة للمشاعر في عدة منعطفات من أحداث الفيلم لا سيما تلك الخاصة بالفقد والرحيل وكأن المكان بجبروته يقول لك عبر تلك الصور , أنا مازلت هنا باقٍ وأنتم راحلون لامحالة.

 

كما أن الفيلم يعيد إلى الأذهان تجربة المخرج مارتن سكورسيزي الأخيرة ( الرجل الإيرلندي ) إنتاج 2019 حينما استخدم تقنية الذكاء الصناعي والسي جي أي لإعادة ملامح الشباب للمثلين في فيلمه كروبرت دينيرو ومن معه. في هذا الفيلم أعادنا زيميكس إلى تلك الإمكانية المعجزة – وأقول أنها معجزة لأنها كذلك فعلا – في أن ترى توم هانكس شابا يافعا ثم أربعينيا ثم ستينيا خلال 100 دقيقة من عمر الزمن وكذلك زوجته الممثلة روبن رايت. هل سبق وتساءلت يوما عن ماهية الشعور وأنت ترى نفسك شبابا في سن الستين مثلا ؟

 

ختاما, هذا الفيلم هو أحد أفضل الأفلام التي شاهدتها في العام 2024  كطرح وإخراج وقوة في الفكرة, وسيظل إلى وقتٍ ما يثير تلك التساؤلات التي لا تنتهي عن الإنسان والزمن والمكان, حكاية المثلث الذي لطالما داعب وجدان المفكرين والشعراء والفلاسفة والعلماء على حدٍ سواء.



هيثم سليمان 

"مخرج وكاتب سينمائي "

مدونة سكريبت كت السينمائية 

30-نوفمبر-2024 

الأربعاء، 11 سبتمبر 2024

بين سردية شخصية وتشضيات مجتمع, سبعة أفلام قصيرة تبحث عن بقعة من الضوء

 

 


بعد دخولي الكامل إلى عالم ٍ مواز ٍ فور ركوبي سيارة النقل التي قطعت طريقها من مطار صلالة إلى مكان إقامتي للمشاركة في مهرجان ظفار السينمائي الدولي بنسخته العذراء, كان ثمة خطب من ذهن ليلى يجوس خلال ديار نفسي حول ما يمكن أن تحمله عروض فلمية بالربع الأخير من العام الإستثنائي 2024  دون توجس من بوح قيس للقصص التي يمكن أن تحملها هذه العروض, لا سيما وأنا الذي عاصرت مجبرا أو من طوع وقتي الفاني عدة مهرجانات محلية, ربما طمعاً في نقلة نوعية في ذائقة المشاهدة.

في فيلم السويدي (روي أندرسن) , " عن الخلود -2019 " شاهدنا الصورة الساكنة عبر مجموعة من اللقطات التي تبدو مغرية حد الثمالة بالإستكانة ولكن ومع تقدم الأحداث تتوغل بك حواف تلك الصور نحو فخ بصري يجعلك تشعر بانك تشاهد لوحات مختلفة, قياسا عليه هذا ما شعرت به وحضرني أسرا وأنا أشاهد سبعة أفلام دولية شدت إنتباهي  تقاسمت قسعة الروائي والوثائقي في حصة العروض. وإليكم ما وصلني من شعورٍ وأترك الفهم لمتشدقي فلسفة التمنطق بالمنطق.

 

أولا: الفيلم التجريبي ( وليس الروائي ) كليك, المغرب :

09:07 دقيقة

حيث أن هذا الفيلم إتسم بخصوصية الفرع الفلمي الطلائعي بنسبةٍ عالية, رجحت بتواضع أنه من المجحف أن نضعه ضمن خانة الأفلام الروائية , فالفيلم يحمل خواصا فلزية لفيلم تجريبي من كثافة رمزية ولا سردية مركزية ممعنا في التشبث بهيمنة الأصوات خلال مشاهده المتوسطة والقصيرة الطول.

وما أستفزني حقا هو الملخص الوصفي للفيلم ( البلوت ) حيث بدأ لي أن صانعه سعيد النظام قد مارس نوعا من الإجحاف القيصري لمساحة الفضاء الموضوعي لفيلمي وأكتفى بحصره في فضاء شبكات التواصل الإجتماعي بالرغم أن هنالك أفكارا ومواضيع عملاقة حد الهول يمكن أن تشعر بها وتقرأها وأنت تشاهد الفيلم.

بكوادر ثابتة مميزة تحركت فيها الأجسام وبحركة كاميرا تارة أخرى نذهب في قصة الفتاة الموهوبة التي تحاول أن تعبر عن ذاتها وإبداعها في فضاء يُكرس نظرته الضيقة للهامش دون الإبداع الحقيقي بل ويضيق على الأخير الخناق أكثر مما تحتمل كأبة الصورة.أعجبني جدا توزيع الأجسام بالفيلم والإسقاط الفذ للجنائني (عامل الحديقة) الذي بالكاد يجعلك تتناسى وجوده وكأن المخرج يقول لك , هل فهمت ما أعني الأن ؟

 

ثانيا : فيلم قصة صالح , السعودية :

15:16 دقيقة – روائي

يأخذك زكي عبدالله عبر فيلم المساحات المليمترية الضيقة في إحدى المجموعات القصصة الواقعية التي تحكي مبدا ألإنسان اللعنة والهِبة أو كما أطر دانتي في الكوميديا الإلهية بين الفردوس والجحيم, حيث نرى الزمن وفضاء الإمكانات المجتمعية يصبان جام غضبهما على البطل ويدفعانه نحو هاوية نيتشه ولا أبالغ هنا.وأنت تشاهد هذا الفيلم مأسورا باللغة السينمائية فيه وألوانه المتاخمة لحكي القصة بصريا , تشعر بذلك الإختناق الحقيقي الذي يفقع جنبات مرارتك وتذهب في جميع فصول ما قبل النهاية وأنت تقول كما قال غوزيه ساراماغو " لا شيء يُبشر بشييء ".

لا أدري لماذا اقتطفت ذاكرتي الصورية مشهدا مشابها من فيلم أصغر فرهادي (إنفصال) وأنا أشاهد طريقة إعتناء البطل بأبيه وأذهلتني التفاصيل الدقيقة التي تناثرت هنا وهناك بإنتظام غير مدروس لتضيف جمالية واقعية للأحداث وتعمق الشعور بالقصة.لم يكن برأي الشخصي  الإشتغال على الإضاءة الداخلية والخارجية للمشاهد  كافيا وكان في حينه من الممكن أن يضيف الكثير للفيلم.

في رحلة بطل الفيلم هنالك صراعُ أسود في الموازنة بين الحرية والواجب ( ولنقل الدين),جل هذا الصراع لم يكن المجتمع المحيط قادرا على إستيعابه وفهمه .بين رغبات البطل البسيطة الكثيرة ومن بينها   توفير صحن الإلتقاط الفضائي (الدش)  ليحظى والده بشاهدة ماتعة (وهي رغبةُ سامية سلوكا وفكرا ) إلى رغبته في الحصول على أنصاف ٍ ما من المجتمع المحيط (يُحاذقه المجتمع المؤسساتي المتعلم الذي من المفترض أن يكون بمثابة القدوة ) يتشظى بطلنا الصغير لينجرف نحو الهاوية وبشكلٍ فجائي صادم كلنا كنا نعي ونفهم ما أوصله إليه لكنه جا صادما بالنهاية وربما بأبشع وسيلة ممكنة , الحرق. ويبقى السؤال هنا , هل كان الأب يستحق ما أحاق به ؟ هل حمل البطل صكا يخوله لإرتكاب الجرم حسب معطيات الأحداث ؟ هل جاء الخلاص مكيافيلا بحتا من منطلق الغاية تبرر الوسيلة يا ترى ؟ ولنسال أنفسنا هل يؤهلنا الضغط المجتمعي والمادي للإنفجار اللاواعي ؟ و أجزم أن زكي عبدالله سيخوض تجارب ومشاوير ماتعة بصريا وهو يقدم لنا هكذا أفلام مستقبلا تسحرك التفاصيل فيها وتصدمك نهاياتها.

وفي اخر نفس ٍ لي والفيلم يسدل أستاره , همست لنفسي وقلت " ليت هذا الفيلم كان فيلما طويلا ".

 

ثالثا :فيلم  أزمة قلبية , سوريا

15:34 دقيقة - روائي

(مكان في الزمن-2023 ) نواف الجناحي , ربما أخذني فيلم ازمة قلبية إلى الفيلم الأنف الذكر حيث يبدو لك ومن الوهلة الأولى تباعا بأن قيمة الحدث بالفيلم قوامها السكون والهدوء الذي غالبا ما يصاحب منزل عجوز وحيدة .يأخذنا عمرو علي مخرج الفيلم في تفاصيل متنوعة في يوم من حياة الأم العجوز مع إحساسٍ عال بالعناصر الفنية كالإضاءة واللقطات التي تمت خياطتها بدقة في رتق كل ومضة عين تشاهدها.

كان من الكارثي بمكان لو كسر مخرج الفيلم الرتابة الشهية والناعمة لتسلسل الأحداث دون موسيقى ولكن ولله الحمد جاء كامل الفيلم دون موسيقى فعلا ليفتح بابا أخر من لذة حس المشاهدة وتعميق عيشنا للقصة ثم المصيبة التي كانت تجلس  على كرسي العجوز المنكوبة.

اسقاطات إنسانية جمة حول قيم الأسرة والجيرة والرحمة والامبالاة يطرحها الفيلم أمامنا بشكل مباشر وغير مباشر ليجعلك تكره العجوز في بداية الفيلم ثم تحبها بشدة في نهايته.في هذا الفيلم ستشتم رائحة الأطباق التي لم يأكلها أحد طُبخت له, وتفتقد الأنس العائلي الذي لم يجلس على طاولة الطعام وتشعر بألم قطتي البناية وهما يموءان بحزان تناديان العجوز بعد رحيلها وتغوص في كأبة المنظر وأنت تستمع لطرق باب مندوب التوصيل وإتصال الإبن المتكرر.

في هذا الفيلم الذي أعجبني جدا وأعتبره أفضل فيلم روائي قصير عُرض في المهرجان , يخبرنا عمرو من بين حواف النسيان الطبيء المتهمل في جنائزية موغلة بالحزن والتبسم مستحضرين مقولة محمود درويش الخالدة " وتُنسى وكأنك لم تكن ".



رابعا : فيلم ترانزيت , العراق

16:08 دقيقة - روائي

حسنا , كان هذا الفيلم محيرا, لا في الفهم وإنما في المسافة الفاصلة التي قد تجعلك تشعر بالملل من تكرار الحدث ونمط الموقع الواحد والشخصية الواحدة الحضورية لكنك سرعان ما تتخطى الملل لتستوعب وتشعر  وتعذر مخرج الفيلم باقر الربيعي ما فعله وخلقه من عالم كئيب خانق داخل مساحة ضيقة من الموت والرجاء.

في حقيقة الأمر, صنُاع الأفلام العراقيين بارعون جدا في سينما المأساة القائمة على الجنائزيات والمخلفات النفسية للحروب فلا غرابة أن ترى فيلما متمكنا في إذكاء مشاهد تؤكد هذه الحقيقة. لقد شهدت كما كبيرا من الأفلام العراقية القصيرة التي تتناول الحرب والمقاومة والإرهاب لحد يجعلني أؤمن بأن التمكن هذا هو قيمة مضافة لكنها مسوغة مدفوعة بواقع هم يعرفونه جيدا وتوفر فضاء الإمكانات من مواقع تصوير وغيره.

يعقوب الموظف بقسم الإحصاء بالمستشفى يلعب دور الحانوتي الذي لا يدفن الموتى بل يدفن القلوب ويمتلك تلك القدرة العجيبة على إسعاد شخص ما بإطعامه الحقيقة أو الكذبة أو على النقيض تدميره نفسيا بأطعامه العلقم المر (نبأ الوفاة ) .يأخذنا يعقوب عبر عمق الشعور والتعاطي مع المتصلين المتواصلين للمنشأة في رحلة قواما الترقب وكأن من يتصل هم نحن نرغب في سماع خبرٍ سار  وكأن من نسال عنه هو شخصٌ نحب ونخشى أن نفقده.

لقد ساهم اللون والضوء كعناصر فنية باقرا ليخرج لنا بهكذا فيلم يؤطر الحدث ويوسط الشخوص انتقالا عبر ثلاثة فصول قصيرة تنتهي بإكتشاف المأساة الفاجعة.

 

خامسا: فيلم ظفائر تائهة , مصر

13:48 دقيقة – روائي

فيلم للمخرجة دعاء وهبه يأخذك وبشكل مباشر تلقائي لقضية تهميش الإنسان ذو الاقلية او المناطقية الصغرى. لعبت المخرجة على وتر الجانب الإنساني في إخبار الحكاية في سردية تناقلتها فصول متسارعة مختلفة من القصة بحيث يقوم كل فصل على حدث بارز يؤسس لما بعده ليتمكن المشاهد من العبور بالزمن مع أبطال الفيلم من بقي منهم ومن رحل دون أن يصعب علينا ملاحظة طرح الجانب التاريخي للقضية ماضيا وحاضرا.

إتسمت لغة الفيلم بالتلقين المباشر سواء من الحوارات التي جرت على لسان الشخصيات أو من الأداء المتخم بموسيقى حزينة تستفيض وربما في بعض الأحيان تستجدي عاطفة المشاهد. لم يكن هنالك غموض ولا ألغاز في هذا الفيلم فكل شيء واضح تمام اليقين وجميعنا متفقون على النسبوية السلطوية في معاملة أقليات من الشعب وتسييرهم حسبما يشتهي علية القوم.

وإلى جانب كل هذا فالفيلم يطرح تسائلات وجودية مجتمعية هامة تتمخض حول قيم العدالة والمساواة وحق تقرير المصير الذي سُلب غصبا وبهتانا من مريم إحدى الأخوات التي تم بيعها بداعي الفقر دون أن يكون لها حق في قول كلمة "لا ".

إتسم الفيلم بالوعظية المباشرة التي تغيرت في نهاية الفيلم إلى حوار يتسم بالعمق والتبطين بين إحدى الأخوات وخطيبها (أو حبيبها ربما ). هذا الفيلم يجعلك تتساءل حتما, هل الأمل معلقٌ في حزام خاصرة رجل غني او سياسي كبير أو رب عمل ساخط ؟

 

سادسا : فيلم حوض , السعودية

14:48 دقيقة – روائي

هل السمكة سبب في شقاء الحوض أم هو الحوض سببٌ في شقاء السمكة ؟ أول سؤال تبادر إلى ذهني وأنا أشاهد الفيلم الشخصي للمخرجة ريما الماجد والذي يسبر أغوار رحلة علياء ونهمها المحموم في تحويل قصتها إلى فيلم سينمائي.

من المشهد الأول يشدك الفيلم عبر عناصر الفضاء الفنية من إضاءة وميزانسين وتصميم إنتاج ليقودك نحو صراع مشحون بين شخصية مستفزة تكبح الإبداع وحرية التعبير وبين شخصية حالمة ترغب في ممارسة أبسط حقوقها, التعبير ذاته ولكن من خلال قصة ما.

وكأنما كانت علياء هي السمكة التي تسبح في حوض ضيق يمكن أن ينكسر بأي لحظة جراء قسوة الضغط المجتمعي والسحق المستمر للموهبة وملكات الإبداع. وكأن السمكة كانت كنز علياء الخاص الهش الذي تحاول حمايته مهما كلفها الأمر, ولأذهب بعيدا جدا وأقول وكأن السمكة هي جنين عليا الذي سيموت لو خرج من الحوض ( الحلم والأمل )  فتسعى لحمايته من العالم الخارجي إياه.

إتسم الأداء التمثيلي للشخصية الرئيسية بالواقعية مع تحفظي قليلا على واقعية واتقان الأداء التمثيلي لشخصية الأب الذي لم ينقعني كما أقنعتني الممثلة بدور علياء أو الطفلة التي قامت بنفس الدور إياه وكما أقنعني أيضا جميع مشهد الفصل الدراسي بجميع عناصره الفنية والأدائية.

في هذا الفيلم توجه ريما أسئلة شخصية للوجود والمجتمع عن أحقيتها في التعبير والحلم, وكأنما تسهب في سردية بين الماضي والحاضر . تلك السردية التي تنقل لنا هول التقليد والتبعية المطلقة ( مشهد الفصل وحركة الدمى ) وتزيد من إثخان الجرح حينما يتصل الأمر مباشرة بالعائلة التي لطالما رسمنا في عقلنا اللاواعي مصطلحات شعبوية مرتبطة بها " كالسند والعزوة والمحزم والعون  والتشجيع ".

هذا الفيلم يعطيك نظرة خاصة لما يعتمل في نفسك كفنان يرغب في قول ما لديه وبطريقته الخاصة دون إكتراث لما سيقوله العالم عنه.

شخصيا أتمنى أن تسلك المخرجة مثل هذا المساق في تجارب أكثر ربما طويلة بالمرة القادمة لتزيد من حصتنا في الاستمتاع بالتعبير الشخصي لمشاعر وفكر صانع فيلم.

 

سابعا : فيلم وردة , الأردن

13:32 دقيقة -وثائقي

وأنا أشاهد فيلم (وردة ) للمخرجة رحمة الشماسي إستدعت ذاكرتي  مشاهدا من الفيلم الأوسكاري  (روما) للمخرج الفونسو كوايرن ,2018 بالأبيض والأسود والذي يتحدث عن قيم إنسانية متضمنة في الهجرة والأمل المفقود.

يجرك فيلم وردة دون تردد منك لتعيش قصة عاملة المنزل  (أسانكا) وتشعر بمعانتها في تناقل بين حكي قصتها الخاصة وبين ما تخبرنا به المترجمة من بنات جلدتها.اختارت المخرجة أن تنقل لك قصة واقعية موثقة بالأبيض والأسود مما أفضى بعدا وعمقا عززه اسلوب المخرجة في حكي القصة بصريا وتنقلاتها بين فصول الحكاية دون أن تبعد أصابع حواسك ولو للحظة عن لمس مادة وثائقية خام. هذا الأسلوب الذي ينم عن تمكن المخرجة في فرد عضلاتها الفنية بأريحية تامة ليتناغم هذا الفرد مع حكي القصة .

وإنه من الشجاعة بمكان أن تخرج مثل هذه القصص من مجتمعات محافظة  تحوز فيها المؤسسة التنظيمية التشريعية نصيب الأسد لتأخذ طريقها نحو عين المشاهد, شخصيا أعتبر هذا الفيلم نقطة جيدة جدا في سجل الشفافية الأردني بالتعامل في طرح مثل هذه القصص والقضايا في وقت أصبح فيه المجتمع الغربي حساسا حد إزدواجية المعايير في وصمنا بأوصاف مثل  (تُجار البشر)  متناسين ماضيهم الموغل في القدم في هذه المهنة.

(أسانكا) تحكي قصتها وكذلك المترجمة التي تنقل ألاما ومواجع كلها تدور في غاية محمومة واحدة ألا وهي الهرب من هذا البلد للرجوع إلى مسقط راسها سيرلانكا.وفي أثناء حديث هاتين الشخصيتين بالفيلم, ستشعر بالتناص الحميد بين الموضوع المطروح كمادة خام للفيلم وبين تنقلات اللقطات ومزج تحرير اللقطات بأسلوب المخرج في لوحات فنية رائعة قوامها الضوء والعتمة واللونان الأبيض والأسود وأجزاء من متعلقات (أسانكا) الثبوتية المدنية. بل وتذهب المخرجة لأبعد من ذلك لتربط الفضاء الخارجي للمدن بفضاء داخلي خاص جدا يتمثل بمعاناة العاملة دون أن تفقد تحكمها في إيقاع الفيلم وهيكلة الفيلم.

فيلم جريء , مخرجة متمكنة تطرح قصتها بأسلوب وثائقي حديث يوصلك للمقصود وأنت تبهر بسحر الصورة.

 =================================

هيثم سليمان

كاتب ومخرج سينمائي 

الخامسة صباحا

11/9/2024


الأربعاء، 26 يوليو 2023

أوبنهايمر , السينما والمعضلة الأخلاقية - Oppenheimer film Interpretation



أوبنهايمر , السينما والمعضلة الأخلاقية..

بقلم: هيثم سليمان

مدونة #سكريبت_كت السينمائية

 @haitham.sulaiman

========================================

" يتحول الفن إلى أداة سياسية عندما يقبح أو يجمل الواقع ".هذه هي العبارة التي دارت بخلدي طوال ذلك الحيز من الزمن –الزمن الذي هو ملعب نولان في منظومة أعماله على مدى عقدين من الزمن- وأنا اشاهد الفيلم الأخير للمخرج كريستوفر نولان " أوبنهايمر". حوالي الثلاث ساعات من الدراما المشحونة التي تفضي سببا تلو الأخر كعذر لجريمة لا مسوغ لها سوى جنون العظمة وتغذية شعور الإنتقام وأخيرا عقدة النقص التي لطالما شعر بها أبناء العم سام في كل محفل يجب أن يسجل التاريخ فيه كلمة للمنتصر أو ضربة موجعة  للخاسر.في حقيقة الأمر, وأنت تشاهد الفيلم يتولد لديك ذلك المزيج المزعج من المشاعر بين التقزز من فداحة الجرم والإنبهار بما يقدمه الفن ليخدم رجال الساسة. ولك أنت تصدق الكوميديا التي تقول " هل يمكن لأمريكا مثلا أن توافق بل وتروج لفيلم ينتقص منها ويشير إليها بأصابع الإتهام في جريكو دولية كتفجير اليابان ؟" طبعا لا, ولو كان كذلك لما كنا نشاهد حاليا الهجوم الإعلامي الساحق المتلاحق على فيلم " صوت الحرية" للمخرج اليخاندرو مونتفيردي  والذي يعرض حاليا في صالات السينما ويحظى بإقبال منطقع النظير ومنصات للجدال والتراشق في المجتمع الأمريكي نفسه.

صديقي القاريء, أنت بلا شك أنضج من أن تنطلي عليك مثل هذه الدعابة الأخيرة. فعبر تاريخ هوليوود الملطخ بالذرائع لجرائم العظمة الغربية – ولست بمحل مجادلة عقدة الخواجة حين ذكر الغرب هنا – لايمكن أن تأتي الأخيرة بفيلم ينتقص أو يهين من الشعب الأول في العالم والدولة الاقوى في العالم, وإنما مجمل الدعاية يتمثل في دس السم بالعسل في لعبة لن تجد هوليوود كالفن السينمائي وعاء حاضنا يدغدغ المشاعر قبل أن يستفز العقول بها. هل يمكن أن نتجاهل البطولات الأمريكية الخارقة في الشعوب التي شنت أو أشعلت فيها أمريكا حروبا ؟ قطعا لا, فالأمريكي هو الساموري في اليابان,  ولورانس العرب والإنساني في المسكيك والوطني في أمريكا الهنود الحمر.إذن ماهي اللعبة يا ترى ؟ أين قارورة السم واين طبق العسل ؟أجملها بإختصار في أن بلاد العم سام تريدك أنت أيها المشاهد الغبي المسلوب الإرادة والمنغمس في ليبرالية الإستهلاك والتفسخ أن تعطيها العذر فيلما فعلت اثناء الحرب العالمية الثانية من إبتكار سلاح الموت " القنبلة الذرية" وتفجير هيروشيما وناغازكي. ولكي يبدو هذا السم قابلا للإبتلاع, كان من الواجب إبراز المجرم وتقديمه بثوب الضيحة, روبرت أونهايمر, العالم الأمريكي ذو الأصول اليهودية مدمر الأجيال يظهر لنا في فيلم يتناول وقائع قيادته كالنعجة المستسلمة عبر فخ الحكومة وأجهزتها الأمنية لتتم التضحية به ويصبح " الشهيد " – وهي عبارة تكررت زهاء الخمس مرات في الفيلم – بقدرة قادر, أولم يكن الفيلم برمته مركزا على عمليات استدراج الشيهد الضحية إلى استجوابات وتحقيقات الحكومة ؟ منذ بداية الفيلم وحتى نهايته والمشاهد يذهب في جولة بين أروقة المكاتب واصحاب ربطات العنق لكي يسهل عليه أن يكتشف أن شهيدنا الضيحة تم استدراجه إلى خانة الخيانة.هل تستوعب الأن عزيزي القاريء القوة الناعمة لألة الفن ؟ تلك القوة التي تجعل من مجرم مع سبق الإصرار والترصد شهيدا يعاني من نوبات تأنيب الضمير بين الفينة والفينة.

وهنا يأتي الحديث عن جدلية أتاح هذا الفيلم وضعها مباشرة أمام مرصد العالم وكافة شرائح المجتمع , هل الفن يخلق من أجل الفن أم هو الفن ذو الرسالة . فإذا كان من أجل الرسالة , فما هي حدود الرسالة التي تتداخل مع مايسمى بالمعضلة الأخلاقية للإنسان ؟ هل هي رسالة واعية نبيلة أم هي رسالة تشويش وتهميش وتوجيه ؟ هل نسمح للفن بأن يوجه عقلنا الاواعي نحو محددات رغم أنها تتعارض مع الحقائق وبأوضح طريقة ممكنة ! فعلى ما يبدو أن السينما هنا وعبر هذا النموذج الصارخ "أوبنهايمر" لم تكن سوى شقراء حسناء لعوب دغدغت شهوة سكير وأوقعته فريسة لها على فراشها المعطر . السينما عندما تطرق باب المعضلة الإخلاقية وتجعلها مجرد أضحوكة لا قيمة لها مقابل أن تتوافق مع أجندة سياسية أو أيدولوجية معينة تغلف فيها الحقيقة بالتعاطف والشفقة ومحاولة إيجاد العذر لأعتى مجرم شهدته البشرية.

صديقي المشاهد , دعك الأن من كومة العواطف والخزعبلات الحكواتية التي تم ضخ الفيلم بها وأنت تشاهده من بدايته وحتى نهايته ودعنا نلتفت إلى الحقائق التي لا ينبغي أن تجعلها تفلت من عقلك الواعي. دعك من متاهات الجدلية بين العلم والأخلاقيات والتي كان الفيلم والمشتغلين فيه ومن وراءهم هوليوود يحاولون إقناعك بأن تفكير العالم مجرد بحت لا يهتم بالسياسية والدمار وكأ،ه ليس إنسانا يعي ويشعر.دعك من كل هذا واسمعني جيدا.

اينشتاين هو أحد المجرمين الذي ساهموا في نشوء القنبلة الذرية عن طريق تحريض الرئيس الأمريكي روزفلت وبيادقه على بدء سباق التسلح الذري, لكنه –أي اينشتاين- كان ذكيا بدرجة كافية للإبتعاد عن المستنقع الموحل الذي ستطلخ يديه في بالعار والدم لاحقا. أوبنهايمر كان وسيظل مجرم حرب ساهم في دمار مئات الألاف من سكان العالم مع إحتمالية كبيرة أن يدمر أخرين في مستقبل الأرض. أوبنهايمر كان يهويديا مدفوعا  بحقده على النازية الألمانية ورغبته في الإنتقام منها جراء ماحدث لشعبه بالتالي لم يكن كما صوره الفيلم عالما متجردا يريد فقط أن يمنع ألمانيا من الوصول إلى سلاح الموت قبل أمريكا – وما يثير الضحك هنا حد القيء هو تكرار شخوص الفيلم واقعا وقصة أن أمريكا سعت إلى إمتلاك القنبلة الذرية فقط لكي تمنع المانيا من صنع واحدة واستخدامها, ثم وأخيرا صنعت أمريكا القنبلة وهي من استخدمتها مرتين , لك أن تتخيل وتضحك – بل كان  رسول الموت وقائد سفينة الهلاك بكامل إرادته, مهما أوصلت لك وسائل الإعلام عكس ذلك.وأخيرا , لا شيء يبرر لأمريكا العظيمة تصنيع واستخدام القنبلة الذرية ضد اليابان , ولم تكن كذبة الحملان التي صرح بها الأمريكان بشأن أن إستخدام القنبلة الذرية ضد اليابان هو ارحم وسيلة لإنهاء الحرب وانقاذ الملايين من اليابانيين.

أما عن الفيلم كإشتغال فني, فأني أرفع القبعة لكريستوفر نولان الذي استطاع بمهارة المخرج المتمكن من أدواته في التحكم بالصوت والصورة في الأوقات التي يريدها  بحيث يجعل المشاهد على كرسيه مترقبا لما سيأتي بعد هذا المشهد وذاك في وقت نلاحظ جميعا أن الفيلم يحدث دراما عادية كرسم خطوط وسير أحداث, لكنها قدرات المخرج التي تجعل من العادي شيء استثنائيا ورائعا. شاهدنا الفيلم بمنظور الشخصية الواحدة – وهكذا تمت كتابة السيناريو, منظور الشخص الواحد – حيث أن جميع مشاهد الفيلم التي لاتحتوي استرجاع ( فلاش باك) كانت كلها بوجود أوبنهايمر , مما يؤكد تكنيك المخرج في التركيز على محور الشخصية الواحدة وباقي الشخصيات تدور في فلكها. كان السيناريو مكتوبا ببراعة منقطعة النظير مازجت بين استرجاع ماحدث سابقا ومايحدث الأن في خين زمنين مختلفين ولكن بإيقاع إتسم بعرض الحدث والغوص في اثارة تأويلاته. ما أزعجني في السيناريو هو كثرة الشخصيات التي أخذت تتدفق هنا وهناك في الفيلم منذ بدايته وحتى قبيل نهايته, ولكن حينما تعرف صديقي القاريء أن السيناريو مقتبس عن كتاب " برومثيوس أمريكا " – ولك ان تبحث عنه وعن  بروميثيوس لست هنا في حصة تثقيفية- عندها فقط تجد مبرا لكثرة زج الشخصيات كونها متصلة بأحداث لها علاقة مباشرة وغير مباشرة بإستجواب الأخ أوبنهايمر.

 الزج بمخرجين صف أول من هوليوود كان لعبة لم أجد لها مسوغا سوى تقوية العملية التسويقية للفيلم واتحدث هنا عن " غاري أولدمان", " كيسي أفليك" , رامي مالك" وغيرهم. أما بالنسبة لأداء الأدوار الرئيسية بالفيلم فكانت رائعا يستحق الثناء لاسيما " روبرت داوني جونيور, و " كيليان ميرفي" مع مبالغة في التمثيل أحيانا من  الممثل " مات ديمون ".لا اسبتعد عن يتم ترشيح الفيلم لأوسكار افضل فيلم وأفضل اخراج وأفضل ممثل بدور رئيسي. ودعك صديقي المشاهد من مقلب ضرورة مشاهدة الفيلم في صالة اي ماكس, فواقع الفيلم كان أغلبه مشاهد داخلية ولم يكن هنالك حاجة أو داعي لأن يتم تصويره بهذه التقنية من الاساس طالما أن الشعور والصورة قادران على الوصول للمشاهد في صالات عادية التقنية, وهذا ما حدث معي.

محبتي

 


الأربعاء، 12 أبريل 2023

عبد الرزاق الربيعي وقراءة إنطباعية عن الفيلم الروائي القصير " ديانة الماء"

 





قراءة إنطباعية 

التاريخ: 10\4\2023 – مسقط

الفيلم الروائي القصير : ديانة الماء

المخرج والكاتب : هيثم سليمان

مدة العرض : 28:38 دقيقة

النوع: خيال – دراما – رعب

مقدم الورقة : الأستاذ عبد الزراق الربيعي  

===============================

شكرا جزيلا للجمعية العمانية للسينما وكذلك لمكتبة مجاز على هذه الإستضافة, والشكر موصول لفريق عمل فيلم ديانة الماء والذي قدم لنا هذا العرض الممتع وعلى رأسه الكاتب السيناريست والمخرج هيثم سليمان.كما أوجه شكري لكل الذي حضروا معنا لهذه الجلسة.نحن إستمتعنا بمشاهدة الفيلم والأن نحاول أن نقدم قراءة ونتحاور مع الفيلم في الرسائل التي يحاول الفيلم أن يوصلها.

في البداية سأتحدث عن حضور البحر في السينما الخليجية. فالبحر يظل حضنا دافئا يحب السينمائيون الخليجيون الإرتماء عليه. كما سنتوقف في عنوان الفيلم الذي يحيلنا مباشرة إلى مفهوم المياه المقدسة. وفي معرض حديثي سوف أتحدث عن مكونات الفيلم والقصة من زمان ومكان وشخصيات وأحداث .ثم سأنتقل بعدها إلى سياقات الصورة من حيث المعنى والشكل الذي يمثل وسيلة إتصال بين المُرسل والمتلقي. وأنهي حديثي بالتطرق إلى عناصر الفيلم الأخرى كالإخراج والأداء مع الوقوف على بعض المشاهد المميزة بالفيلم.

بالنسبة لعلاقة البحر بالإنسان الخليجي يظل البحر بمثابة الحضن الدافيئ للمخرجين الخليجين, ربما لجماليات الصورة فهنالك يجد المخرج موقعا جاهزا ومتاحا يغترف منه ما يشاء ويؤثث المشهد الصوري بجماليات بوجود الصوت لاسيما الصوت الذي سمعناه اليوم بالفيلم وهو صوت البحر الذي إحتل مساحة كبيرة من مجمل الأصوات بالفيلم.كما يعتبر البحر كنزا غنيا بالحكايات والأساطير كعروس البحر وتنين البحر وأغاني البحر فهي كلها تزيد من رفعة العمل السينمائي وتدفعه إلى الأمام.أول تجربة للسينما الخليجية مع البحر هي فيلم " بس يا بحر " للمخرج خالد الصديق الذي أنتج عام 1972 م. حيث يتحدث ذلك الفيلم عن الشاب الذي يتوق لركوب البحر لصيد اللؤلؤ لكن والده المعاق يمنعه من تحقيق حلمه المتمثل بصيد بالزواج من حبيبته عن طريق ركوب البحر وصيد اللؤلؤ. وفي فيلم " ديانة الماء" نلاحظ مباشرة كتشابه , عيسى وهو يتوق إلى ركوب البحر للبحث عن أبيه.فهنالك مقاربات قد تحدث حينما يكون اصل المادة " البحر" هو الوجه المشترك بين الأعمال السينمائية الخليجية.ايضا هنالك فيلم خليجي أخر عنوانه " سيدة البحر" للمخرجة شهد أمين وهو إنتاج سعودي. حيث نلاحظ فيه قصة الفتاة التي تعيش في قرية على الساحل تحكمها العادات وفكرة تقديم القربان التي تتشابه مع قصتنا حيث " زهرة" هي القربان في فيلم " ديانة الماء" وهي التي تحاول كسر عادات وتقاليد مجتمعها الساحلي.ويوجد فيلم إماراتي بعنوان " ظل البحر" للمخرج نواف الجناحي يطرح ايضا سلسلة من القضايا الإجتماعية لمجتمع ساحلي معاصر. وأخيرا هنالك الفيلم الُعماني " البوم" إخراج الدكتور خالد الزدجالي .

وبعد هذه المقدمة أو المدخل عن علاقة السينما الخليجية بالبحر, نتطرق الأن إلى فيلم " ديانة الماء". وهو فيلم يتحدث عن الشاب الأعمى (عيسى)  الذي إبتلع البحر والده وتوقه لركوب البحر للبحث عن والده لكنه يواجه عدة تحديات ومصاعب مع إسقاط مباشر من مخرج الفيلم  لثيمة التمسك بالحلم والجرأة وحماسة الشباب عبر لقطتين لبيتين شعريين من ابيات قصيدة (إرادة الحياة) للشاعر التونسي المعروف أبو القاسم الشابي :

ومن لا يحب صعود الجبال

يعش أبد الدهر بين الحفر

وعندما نتحدث عن عنوان الفيلم " ديانة الماء", نحن نعلم أن عنوان الفيلم هو عتبة لدخول العمل الفني فيحيل كاتب ومخرج الفيلم هنا العنوان إلى المياه المقدسة .وهذا المفهوم موجود في الديانات السماوية وغير السماوية. فكما نعلم أن الوضوء والتطهر بالماء يمارس في الديانة الإسلامية والمسيحية  والهندوسية والتي ركز عليها الفيلم مثلما شاهدنا.فكرة نبش القبور وإغراق الجثث في ماء البحر لكي لا تحترق داخل جحيم الأرض ماهي إلا لتطبيق هذا المفهوم.

ونلاحظ عبر سير أحداث القصة بالفيلم أن هنالك إشتباكا بين المفهوم الديني لقدسية الماء في القرية وبين الخرافة السائدة حوله وإن كانت الغلبة في الطرح لجانب الخرافة.ثم تبرز نقطة أخرى بين هذين العنصرين ألا وهي العلم أو الحقيقة العلمية التي نراها هدف لبحث شخصية (سبيت) – التي قام بها الفنان صالح زعل الفارسي- حيث أدهشتنا هذه الشخصية بلغتها العالية وفي مقولة للجاحظ يقول فيها ( أن الكلام يطابق مقتضى الحال) فنرى بقصة الفيلم ما يسوغ تلك اللغة العالية للعجوز سبيت. فهذا العجوز هو رجل غريب وفد إلى القرية  وكان يعمل في مختبر طبي مما يمكن أن يبرر له العلو اللغوي.فالعجوز كان يتحدث عن الوسط الناقل والزجاجة الت يشبها بجسد الإنسان , وهذا في الحقيقة من أجمل المشاهد بالفيلم وأعمقها كما أنه يمثل بؤرة الفيلم الفلسفية. فمحاولة إنقاذ العجوز سبيت الجسد البشري لكي تذهب عنه الشوائب ليبقى العظم وهي اشبه بطريقة الهندوس الذين يحرقون الجسد ويبقون رماد العظام لكي يرمونه في النهر.وكما نعلم أن عند الهندوس لديهم عناصر الطبيعية تتمثل في النار, الرياح, التراب والماء.وإذا ما أفترضنا أن ريحا هبت على نارا فأطفأتها, يتبقى لدينا عنصرا الماء والتراب.وحينما نشاهد الفيلم ونغوص في المنظور المفاهيمي الفلسفي تبرز المقارنة بين الماء والتراب في سؤال أيهما أكثر قدسية. فيمثل الماء مصدر الغياب حيث أختطف والد عيسى وأبتلعه بينما يتمثل التراب في القبور السبعة التي تنبش بالقرية بشكل مجهول معلنة عن إختفاء الأجساد بداخلها.فيكون الماء هنا بحضوره أكثر قدسية من وجهة نظر العجوز سبيت حيث الذي يُتفه التراب و يذكر أن الماء  يشغل حوالي 71% من كوكب الأرض فهو المهيمن وهو المطهر. كما حضر عنصر تسفيه التراب وتصويره بأنه تافه لا قيمة له حينما نرى في أحد مشاهد الفيلم أهالي القرية وهم يدلقون التراب دلالة على عدم حقارته ويخاطبون الكائنات التي تأتي من الماء.

وفي خضم الإسقطات السابقة حول قدسية الماء وتفاهة التراب, يعرج الفيلم ليتطرق إلى علاقة الروح بالجسد وهي قضية جدلية وعالمية كبيرة.ويضج الفيلم بشكل عام بسلسلة من الأسئلة  الوجودية العميقة حيث تتمحور كلها داخل بنية من الصراع بين اليابسة والماء والصراع بين العلم والخرافة.  فالجمارية هي كائنات خرافية تأتي من البحر ويعتقد أهالي القرية الساحلية بأنها غاضبة عليهم وتقوم بنبش قبور موتاهم فيسعون إلى إرضاءها عن طريق تقديم القرابين المستمرة, وكانت زهرة هي أحد الضحايا أو القرابين لهذه الكائنات.

وأتطرق هنا إلى سياقات الصورة من حيث المعنى والشكل . فالمعني يتبين بالفيلم من خلال المضامين الدلالية والإيحائية والرمزية والتي أتت بشكل مكثف. وإستنادا على حقيقة أن أصل السيناريو هو نص قصصي مقتبس عن قصة قصيرة لكن مخرج الفيلم أعاد كتابته بصريا وهذا حق مشروع ووارد ,حيث يقول جان كوكتو " السينما كتابة حديثة حبرها الضوء".حيث حول المخرج الكلمات إلى ضوء وصورة وخرج لنا بهذا الفيلم. تقطيع المشاهد بالفيلم والربط بينها والحديث بالصورة كان ناجحا,  كما أن التأثيث الدرامي كان تاثيثا جيدا. وعندما نأتي إلى ألوان الصورة قدم مخرج الفيلم ألوانا تحمل قيما رمزية معينة نذكر منها على سبيل المثال, اللون الأسود في لباس " الجمارية" في الحلم الذي حلمه عيسى. حيث مثل هذا اللون بطريقتين مادية محسوسة ومعنوية رمزية.حيث مثل  العتمة التي يعيشها عيسى كونه أعمى وكذلك مثل التشتت والخوف الكبير الذي يعتريه بداخله .وهنالك اللون الأحمر الذي يظهر في  لباس الرجال والنساء بمشهد أهالي القرية المؤدين لطقوس مناداة الجمارية حيث تبدو بإعتقادي وكأنها مسيرة إلى حرب وتماشت مع الأزياء المبهرة التي حضرت في ذات المشهد ما أعمى الصورة ابعادا جمالية ومعنوية.

فهنالك الكثير من المشاهد التي لفتت إنتباهي بالفيلم ومنها مشهد الحوار بين عيسى وأمه وتحذيرها له من السؤال عن أبيه المفقود فتقول له " أن الحقيقة تلسع من يتقاصها ويبحث عنه بحثا محموما".

وكخلاصة, أمتعنى فيلم "ديانة الماء" كثيرا فهو يزخر الفيلم بالكثير من العناصر الفينة الجميلة ويقدم عدة إسقاطات عن مواضيع جدلية في صيغة أسئلة وجدانية عميقة , كما شدني الصراع بين العلم والخرافة والذي بنهايته إنتصر العلم والمعرفة على الخرافة والأسطورة في صورة مكثقة واسرة ركز فيها المخرج على شخوصه وعلى الحوار الذي كان مقتضبا فإسطتاع المخرج أن يربط بين جميع هذه العناصر ويقدمها في مدة زمنية. وختاما أهني مخرج الفيلم على هذه الفرجة والتجربة التي تستحق الإشادة والتي بدورها ستتحمل الكثير من النقاشات.




الأربعاء، 28 ديسمبر 2022

(جنيات إنشرين) قراءة متهملة في الزمن والموت The Banshees of Inisherin

 

(جنيات إنشرين)

قراءة متهملة في الزمن والموت

بقلم السيناريست المخرج هيثم سليمان

المدونة الإلكترونية : #سكريبت_كت

Scriptcut.blog.spot

=======================

للوهلة الأولى يبدو أن مارتن ماكدونا مخرج فيلمنا الحالي المتوقع ترشحه وفوزه بعدة جوائز سينمائية دولية لهذا العام, يبدو أنه مايزال يقبع في عباءة متخمة بلذة الفوز من فيلمه الأوسكاري الأخير " ثلاث لوحات خارج أيبين ميزوري" عندما انتزع الفيلم باستحقاق  سبع جوائز أوسكار من بينها أفضل فيلم .فالجو العام للفيلم يوحي لك بذلك الهدوء المشبع برائحة الزمن, هذا الجو الذي يتقنه المخرج ماكدونه ويعرف كيف يزرعه فينا كمشاهدين ليتغلغل فينا ببطء عبر استخدام أسلوب إخراجي قائم على المساحات والكوادر الشاسعة والحوارات المقتضبة ضمن أحدوثة قصصية مختلفة. في عُرف ماكدونه لكل عنصر ثابت قيمة زمنية تضفي لعامل الزمن سطوة واضحة تجعلك تشعر بمشاعر عدة من بينها الكأبة أو فقدان الأمل أو الرغبة في الإنتقام. فالنار لها سطوة والضوء القادم من نافذة كوخ مطل على شاطيء البحر سطوة والوجه العجوز المتجهم سطوة والمرأة المغدورة سطوة. هذه العناصر وغيرها الكثير هي ما جعلتني متابعا بصمت ولهفة مكتومة للفيلم الجديد " جنيات إنشرين".

من خلال كوكبة من النجوم الخبراء والصاعدين أمثال بريندن غليسن , كولين فارل والموهوب الصاعد باري كويغن الذي رأيناه يبدع في فيلم " قتل الغزال المقدس" إستطاع ماكدونه أن يصنع موائمة بين تقلبات الشخصيات وعمق القضية وبساطة القصة. وعندما نتحدث عن القصة فقصتنا هنا بسيطة جدا, إجتماعية حد الثمالة. بادريك سولبيان فلاحٌ إيرلندي بسيط يعاني متلازمة التعلق بصديقه الوحيد  العجوز كولم الذي يتغير عليه فجأة بين عيشة وضحاها ليصبح كارها للتحدث معه أو وجوده بالقرب منه بعدما كان يشاطره الجعة والأحاديث كل يوم ليبقى ذلك السؤال الوجودي المحموم في قلب وعقل بادريك, لماذا يشعر كولم بأنه ممل ؟

قصتنا البسيطة المفعمة بالمشاعر والوجدانيات تدور  في زمن الحرب الأيرلندية الأهلية عام 1923 تحديدا قبيل إنتهاء الحرب الضروس التي استمرت قرابة العام ونصف العام. وحينما نتحدث عن حدث مأساوي كالحرب نرى كيف جعل ماكدونه وكاتب السيناريو هذا الحدث يكاد لا يتعدى مساحة كونه حلفية للقصة فقط لكنه يدخل في صلب النسيج الإجتماعي بين أعضاء ساكني جزيرة إنشرين . لم يفارق دماغي ذلك المشهد حينما يقف بادريك سوليبان على ضفة الشاطيء وهو يرى ويستمع الى قصف مدافع الحرب دون إكتراث معبرا عن لامبالاته بتلك الحرب مؤكدا على أن استعادة علاقته بصديقه العجوز أكثر أهمية من مايدور في رحى الحرب وذلك اسقاط مباشر وذكي لرغبة كاتب السيناريو في تبيان أن اهتمام الشعب الإيرلندي ببعضه البعض كان من الممكن أن يوقيه شر الحرب , نفس الإسقاط الذي أتى بشكل مباشر في أحد الحوارات على لسان ساقي الحانة على الجزيرة والذي صرح مباشرة بأن شعور التواجد في حرب ضد المستعمر الإنجليزي والإيرلنديون يقفون في صف واحد ضد عددو مشترك أفضل من الشعور في التواجد في حرب اهلية بين ابناء الوطن الواحد. وتسري القصة متهملة عبر زوايا واسعة تكشف معالم الطبيعة والحياة البطيئة المتمهلة على الجزيرة دينيا وعمليا بل ويصر المخرج على أن يرينا  مفترق الطرق الذي نراه أكثر من ثلاثة مرات بالفيلم يتوسطه تمثال لمريم العئراء والذي يحدث فيه أول افتراق بين طريقي الشاب بادريك والعجوز كولم في اشارة واسقاط واضح لماهية التماهي بين مايريده القلب ومايريده العقل على كافة الأصعدة.

في جزيرة إيرلندية تبدو فيها الأنشطة الإجتماعية والحضارية محدودة حد الكأبة, هل يمكن أن تكون الطيبة كافية لبقاء الإنسان سعيدا ؟ هل يمكن أن تتحول الطيبة من شعور سامٍ قد يكون متوارثا أو مكتسبا إلى سلاح قاتل يمكن أن يدمر مسيرة الإنسان؟  يحاول كولم العجوز إعادة اكتشاف نفسه والصراع النفسي المرير في سبيل هزيمة الزمن والعمل على تحقيق انجاز ما في حياته قبل موته. حيث يعتقد أن الموت يخطف كل ذاكرة الإنسان ولايبقي له إلا ما ترك من ارث معرفي. " الموسيقى لا تموت ", هذه كانت عقيدة وحلم العجوز كولم, الشيء  الذي لم يفهمه الشاب الطيب بادريك سوليبان. لحن واحد يحمل ذات إسم الفيلم دفع من أجله العجوز كولم تضيحات كثيرة جسدية ونفسيه أدت الى قطع أصابعه الخمسة في طقس احتفالي سادٍ للوصول الى عظمة إنجاز متمثل في خلق لحن موسيقي جديد يخلد ذكراه قبل أن يموت. إذن هو صراع مرير ضخم لكنه مكتوم في قلب العجوز كولم الذي لا يود أن يجرح مشاعر صديقه السابق بادريك يتمخض في شعور بادريك بالخيانة من ترك صديقه له فجأة بحجة الحاجة لخلق شيء جديد كلحن موسيقي. هل كان الفن وجماليته مهمين بمثابة خبز العيش أو حليب البقرة الحلوب في ذلك الوقت من الحرب والتعاسة؟

كما أن المرأة الإيلرندية ليست مغيبة في هذا الفيلم, حيث نرى أخت بادريك " شيفون" وهي تصارع في حقها للبقاء والحلم في مجتمع ينظر للمرأة بنظرة ضيقة حتى من جانب بنات جنسها النساء. المواضيع الحقوقية للمرأة في الأفلام الإجتماعية غالبا ماتظهر مباشرة دون تواري أو وجل.شيفون كانت بمثابة الملاذ الروحي والعلاج المطهر لأفكار بادريك الأثمة عقب الخيانة التي لاتغتفر من قبل صديقه السابق كولم.ومع وجود شيفون كدواء مطهر, يأتي الموهوب دنكن "باري كويغن"  الشاب المنبوذ من أبيه ومجتمعه الذي يسعى لتحقيق غرائزه الجنسية كمراهق ليمثل هذا الشاب الصغير دور الشيطان البريء الذي يطعم عقل بادريك سوليبان بالأفكار والاقتراحات المميتة الغير مناسبة البتة مع فداحة الموقف. لتنتهي حياة هذا البائس منتحرا بعدما فقد الشعور بالحب والرغبة فور رفضه من  "شيفون".

كخلاصة, فيلمنا يبحث ويتعمق في مسألة الموت والزمن في قراءة متمهلة جدا تعززها مساحات الطبيعة المحيطة في تصميم إنتاج مبسط غير متكلف لكنه فعال ومثري وكذلك المكان بل وأجزاء تصل الى المخلوقات بالفيلم كالحمار ومايحمله من أهمية لبطل القصة ويجعله باعثا لحدث مصيري كان من الممكن أن يقلب أحداث الفيلم إلى مأساة. فالحيوانات تمثل عامل الزمن والتعلق جزئيا في الفيلم كما تضفي تلك الشاعرية الإنسانية المتمثلة في تطهير وحدة الإنسان مواساته. كل شيء هاديء على هذه الجزيرة حتى توقعات الموت المتوقعة , حتى الكبار المغمورين بإرث السلام والوطنية والحرية. هذا الفيلم يزيد من إعجابي بالمخرج ماكدونه واتقانه الملاحظ في التحكم بعناصر الزمن وثيمات الموت والحياة عبر أفلامه.

تقييمي الشخصي للفيلم 8.6\10

 





  

 

الاثنين، 8 أغسطس 2022

قراءة لعوالم الأخوين روسو (حصالة السينما التجارية الامريكية المعاصرة)

 مسودة مصغرة-  قراءة لعوالم الأخوين روسو (حصالة السينما التجارية الامريكية المعاصرة)


الملاحظ في مسيرة الأخوين المخرجين/الكاتبين/المنتجين جوزيف روسو، و، انتوني روسو مواليد السبيعنات هو قدرتهما المرعبة في استفزاز جيوب المشاهدين للأفلام (الموفيجورز) لتحقيق مكاسب تتعدى المليارات حرفيا ضمن واحدة من اشرس مجالات صناعة المحتوى منافسة على الإطلاق (السينما التجارية). فبالرغم من بدايتهما المستقلة سينمائيا كعادة اغلب المخرجين الامريكيين إلا أنهما استطاعا الخروج من لب المستقل المكثف الى الأسلوب المخصص الموثر على حواس المشاهد في التجاري بحيث باتت تعرف بصمة روسو في عدة اعمال اكتسحت شباك التذاكر  لاسيما في أفلام الأكشن والمغامرات على غرار عوالم مارفل السينمائية بحصيلة اربعة أفلام جميعها حققت ارباحا تفوق الخمسة مليار دولار انتقالا لفيلم (استخراج) او اكستراكشن الذي حقق اكبر عدد مشاهدات على شبكة نيتفلكس مرورا بأفلام الدراما المرتبطة بالجريمة والكوميديا مثل الفيلم الايقوني (تشيري) على منصة ابل والذي يعد الفيلم الذي نفض غبار التشكيك في  قدرات  ممثل ناشئ مثل توم هالاند (بطل سبايدرمان الاجزاء الاخيرة)، انتهاء بأفلام الويسترن سباجيتي المعتمدة على السيت كوم و سينما الموقف. كل هذه الحصيلة من الانتاجات التي درت ارباحا لم يتوقعها أكثر المنتجين تفاؤلا في وادي السيلكون السنيمائي الأمريكي جعلت الأخوين روسو في المركز الثاني مباشرة كأكثر المخرجين التجاريين شهرة وتحقيقا للأرباح بعد المخرج المشهور ستيفن سبيليبرغ مباشرة.


والمثير في عوالم هذين الأخوين هو جرأتهما في انتاج افلام من جيوبهما الشخصية في وقت تتهافت كبريات أستودويهات هوليوود للتعاقد معهما في مختلف افلام الاكشن والدراما (يعيدني هذا بالذاكرة الى ايقونتا سينما الاكشن الامريكية  زمن التسعينات، الاخوين واتشوسكي مخرجي ملحمة المصفوفة- ذا ماتريكس). فالتجربة في فكر روسو تتعدى مادية الانتاج الى صنع التجربة نفسها وتحمل تبعات فشلها من نجاحها وكيفية تلقي المشاهد عاشق السينما التجارية لها.. وهذا برائي الشخصي مايحسن ويزيد من قوة الصنع الفنية لدى الاخوين كتابة واخراجا في كل فيلم يقوما به حتى كتابة هذه السطور، اخرها فيلم الرجل الرمادي (ذا جريي مان) الذي يعرض على منصة نيتفلكس، حيث بأمكان المشاهد التمعن ان يرى محاولات جادة من الاخوين روسو في رفع مستوى  فن صورة وحركة افلام الاكشن لتقارب ذون مبالغة مستويات وصلت اليها أفلام الجاسوس البريطاني جيمس بوند مثلا.



#هيثم_سليمان 

#سكريبت_كت

#الجميع_يشارك_سينما 


الخميس، 30 ديسمبر 2021

عن الخلود, قوة اللقطة الثابتة وحتمية الجدل بين الإيمان والعلم

 


عن الخلود, قوة اللقطة الثابتة وحتمية الجدل بين الإيمان والعلم

هيثم سليمان

مدونة سكريبت كت السينمائية

======================================= 

في ساعة وثمانية عشر دقيقة وبواقع  واحد وثلاثون مشهدا بأسلوب اللقطة الثابتة يتخللها تعليق صوتي منتقى بعناية ليعزز ما ترينا إياه اللقطات, يأخذنا المخرج السويدي روي أندرسون عبر فيلمه المستقل  ( عن الخلود) إنتاج 2019 والذي ترشح لجائزة الأسد الذهبي لمهرجان فينيسا السينمائي الدولي وفاز بجائزة الأسد الفضي عن فئة أفضل أخراج بذات المهرجان .


في فيلم أندرسون نرى الصورة الساكنة عبر مجموعة لقطات ثابتة لا تشعرك بوجود الكاميرا أساسا وكأن الفيلم يتنقل من حياة إلى أخرى دون توقف وبتمهل شديد. في هذه اللقطات التي تبدأ أغلبها بالسكون الذي يوقعك في فخ بصري يشعرك بأنك تشاهد مجموعة لوحات فنية معاصرة مرسومة بدقة أو صورا فوتوغرافية غاية في الكمالية تكاد أن تمد يديك لتلامسها. ورغم أن الصورة ميتة سكونا إلا أن الحياة تدب فيها عبر حركة الشخصيات المدروسة التي تميل إلى الفعل المسرحي المتكرر, أنت تشاهد صورة بكامل جبروتها تنتظر من شخصية أن تضخ الدماء فيها دون أن تترك أثرا في جماليتها وعظمتها.


من مشهد الزوجين العجوزين في المنتزه على الشاطيء إلى الشابة التي تنتظر في محطة القطار إلى ساحة المطعم العتيقة قبل وصول الفتيات الراقصات إلى المشهد الأخير المتضمن لرجل يقف على قارعة الطريق لإصلاح عطل في سيارته, تشعر وكأنك تشاهد مجموعة من اللوحات الثابتة التي تحرك بداخلك كل ساكن. الكوادر الغريبة التي تجعلك  تعيش بعدين زمنين الماضي والحاضر عبر تأثيث مكونات الموقع وكذلك الملابس. وحينما نتحدث عن الاخراج الفني بالفيلم سنرى حرص إندرسون على تماهي ديكورات الأمكنة بألونها مع ملابس الشخصيات إلا في مشهد أو مشهدين ركز فيهما على شخصيات بعينها والبسها الشاذ عن رومنطقية الأمكنة.




 



( عن الخلود) فيلم يجعلك تفكر وتتساءل والموسيقى التأبينية المتناغمة تصاحب أفكارك. وكأن أندرسون في فيلمه يبحث عن الخلود بطريقة أخرى ويتسائل كيف يعثر البشر على الخلود في حياة فانية مليئة بالمتناقضات والمشاعر التي قد تصل الى حد التطرف دون أن نرتبكها فعلا.


في مشهد يتبين لعين الفطين المدقق بأنه مرحلة انتقالية بالفيلم, نرى أخوين أو حبيبن يجلسان في غرفة ذات نافذة  شاحبة تطل على مكان متحرك بينما الغرفة تغرق في سكون لا يفقده الحوار الفلسفي الدائر بين الشخصيتين سكونه.في هذا المشهد  وكأن المخرج ينظر إلى الإيمان بمنظور العلم ليثير فينا ذلك الجدل الأزلي القديم المرتبط بإرتباط العلم بالإيمان, الثابت بالمتحول والمتحول بالثابت. بل ويدخل المخرج بشجاعة في عمق تلك الرابطة ويدخل شخصية الإنسان المتشكك بإيمانه الذي يلجأ إلى العلم ليداوي ضعفه وقتل شكوكه ( في الحوار الذي دار بين القسيس والطبيب النفسي في العيادة " ماذا نفعل حين نفقد إيماننا؟ ليأتيه الرد : نعتذر سوف نغلق العيادة الأن"). هذا الإيمان الذي يمر مروا معقدا ومؤلما بين الحرب والسلم, الخذلان والأمل, القسوة والأجحاف.بل ويتعدى ذلك إلى سيرالية الغيب وكيف يمكن أن يتماهي كيان لاملموس كالإيمان في عوالم غيبية كالموت مثلا.في هذا الفيلم ,  يريك المخرج القدر متضمنا في قانون حفظ الطاقة الفيزيائي. القدر طاقة لا تفنى ولا تستحدث من العدم بل تتحول من شكل إلى أخر. ويرمز هنا ربما إلى اقدر شخصياته في جميع المشاهد الواحد وثلاثين التي تتناوب عليها أقدر مختلفة لكنها لا تردخل خانة الفناء وإنما تتشكل بتشكل الموقف والمكان عبر الزمن.