الزمن والإنسان بلسان بضعة
أمتار من المكان
"أحدهم نسي كاميرته لعدة قرون هنا"
مدخل : مشهد نهاري
خارجي لدليل سياحي يقود فوجا من السياح لمشاهدة معلم أثري(مكان) ويحدثهم عنه يبدون
في غاية الإبهار والدهشة والتركيز. لنقلب الآية الأن ولنسأل سؤالا واحدا فقط, ماذا
لو تحدث المكان عن ما مر به دون حاجة إلى وسيط فانٍ كالبشر, وأعني بالمكان هنا
الأرض, تلك المخلوقة التي حكُم عليها أن تشهد مأسي وطمع وسحر البشر وكذلك روعته.
عبر هذا المدخل الذي يدور كحلقة مفرغة في وجدانك وأنت تشاهد الفيلم الرائع Here
إخراج وسيناريو
الأمريكي روبرت زيميكس الذي أتحف أنظار البشرية بالفيلم الأيقوني فوريست غامب
بطولة النجم توم هانكس. وعندما نتحدث عن التوافقية بين ذاك كممثل وذا كمخرج ها هما
مجددا يجودان لنا بفيلم رائع وبأبسط فكرة ممكنة وبأكبر قدر من العمق تتسع له مساحة
السرد البصري والتلقي.
يحكي هذا
الفيلم وبلسان بضعة أمتار من مكان ما على وجه الأرض قصص أجيال وأجيال من البشر عبر
منظور اللقطة الواسعة لردهة منزل وكيف إنتقلت هذه المساحة منذ عصر الديناصورات وحتى
يومنا هذا إلى مكان يضم أطنانا مليارية من المشاعر والأفكار والتجارب وبطبيعة
الحال تقادم الزمن. إن هذه الفكرة وبالرغم من بساطتها لكنها تتسم بعمق الطرح
وفجائية الوقوع على النفس .لنا أن نتخيل أن شبرا على هذه الأرض وعبر ألاف السنين ؟,كم
حكاية في جعبته ليرويها وكم كائنا حيا مر عليه وحفر فيه ذكرى ما. يكاد هول الفكرة
يتسق مع بساطتها اللامتناهية. وكأن الحال بالفيلم يقول لك يتغير كل شيء من حولي
وأنا الثابت المطلق.
نغوص في رحلة هذا
الفيلم بين الماضي والحاضر لنشهد حقبا من تأريخ الأرض قبل تأريخ الأمريكان أنفسهم
ونفتح تباعا أقفالا في ذاكرة المواطن الأمريكي والعائلة الأمريكية وما قبلها العائلة
البريطانية المستعمرة والإنسان القديم وتفاعلهم مع بعضة أمتار من المكان بينما
يهرول الزمن تارة ويلتقط أنفاسه تارة أخرى متمهلا في عرض الفواجع أتراحا وقيم
السعادة أفراحا.
سبق وأن تحدثت
عن قوة اللقطة الثابتة في أفلام المخرج السويدي روي أندرسون على وجه الخصوص فيلم
(عن الخلود) إنتاج 2019 والذي ترشح لجائزة الأسد الذهبي لهرجان فينيسيا السينمائي
وفاز بها عن فئة الإخراج. في فيلمنا الذي نتحدث عنه تتضح سطوة وقوة اللقطة الثابتة
في حكي ما يقارب 100 دقيقة من الأحداث وعدة قرون من الزمن من زاوية واحدة وكأن
أحدهم نسي عبثا الكاميرا الخاصة على حامل
ترايبود لبضعة قرون في تلكم الأمتار البسيطة.
هذا الفيلم
يتسفز فيك الكثير من الأفكار والمشاعر - وجعلني منجذبا له كثيرا هو نمط دراما أفلام
التسعينيات التي صاحبناها نحن أبناء جيل الثمانينات بكل ما تحمله من كلاسيكية
شاعرية وقوى أداء الممثل وحنين إلى دراما الصورة البعيدة عن التكلف وسطوة التقنية
الحديثة المبالغ فيها- حيث يجعلك تفكر في قيمة الإنسان مقابل الأرض(المكان) ومقابل
الزمن وكيف هي ثقافته ووعيه وأنماط تفكيره و مزاجاته تتغير من زمن إلى أخر. لنا أن
نعتبر هذا الفيلم توثيقية بصرية لتاريخ مجموعات من البشر تراوحوا على بضعة أمتار
من الأرض تملكا أو عبورا.
وحينما نتغاضى
عن بعض الهنات في السيناريو ونستوعب استحالة عدم تسارع الأحداث المربك أحيانا في
القبض على جميع فواصل تلك القصص التي قدمها الفيلم سندرك أن الفيلم يشكل فرجة
بصرية ماتعة مغلفة بالتساؤلات ومحركة للمشاعر في عدة منعطفات من أحداث الفيلم لا
سيما تلك الخاصة بالفقد والرحيل وكأن المكان بجبروته يقول لك عبر تلك الصور , أنا
مازلت هنا باقٍ وأنتم راحلون لامحالة.
كما أن الفيلم
يعيد إلى الأذهان تجربة المخرج مارتن سكورسيزي الأخيرة ( الرجل الإيرلندي ) إنتاج
2019 حينما استخدم تقنية الذكاء الصناعي والسي جي أي لإعادة ملامح الشباب للمثلين
في فيلمه كروبرت دينيرو ومن معه. في هذا الفيلم أعادنا زيميكس إلى تلك الإمكانية
المعجزة – وأقول أنها معجزة لأنها كذلك فعلا – في أن ترى توم هانكس شابا يافعا ثم أربعينيا
ثم ستينيا خلال 100 دقيقة من عمر الزمن وكذلك زوجته الممثلة روبن رايت. هل سبق وتساءلت يوما عن ماهية الشعور وأنت
ترى نفسك شبابا في سن الستين مثلا ؟
ختاما, هذا
الفيلم هو أحد أفضل الأفلام التي شاهدتها في العام 2024 كطرح وإخراج وقوة في الفكرة, وسيظل إلى وقتٍ ما يثير
تلك التساؤلات التي لا تنتهي عن الإنسان والزمن والمكان, حكاية المثلث الذي لطالما
داعب وجدان المفكرين والشعراء والفلاسفة والعلماء على حدٍ سواء.
هيثم سليمان
"مخرج وكاتب سينمائي "
مدونة سكريبت كت السينمائية
30-نوفمبر-2024