(جنيات إنشرين)
قراءة متهملة في الزمن والموت
بقلم السيناريست المخرج هيثم سليمان
المدونة الإلكترونية : #سكريبت_كت
Scriptcut.blog.spot
=======================
للوهلة الأولى يبدو أن مارتن ماكدونا مخرج
فيلمنا الحالي المتوقع ترشحه وفوزه بعدة جوائز سينمائية دولية لهذا العام, يبدو
أنه مايزال يقبع في عباءة متخمة بلذة الفوز من فيلمه الأوسكاري الأخير " ثلاث
لوحات خارج أيبين ميزوري" عندما انتزع الفيلم باستحقاق سبع جوائز أوسكار من بينها أفضل فيلم .فالجو
العام للفيلم يوحي لك بذلك الهدوء المشبع برائحة الزمن, هذا الجو الذي يتقنه المخرج
ماكدونه ويعرف كيف يزرعه فينا كمشاهدين ليتغلغل فينا ببطء عبر استخدام أسلوب
إخراجي قائم على المساحات والكوادر الشاسعة والحوارات المقتضبة ضمن أحدوثة قصصية
مختلفة. في عُرف ماكدونه لكل عنصر ثابت قيمة زمنية تضفي لعامل الزمن سطوة واضحة
تجعلك تشعر بمشاعر عدة من بينها الكأبة أو فقدان الأمل أو الرغبة في الإنتقام.
فالنار لها سطوة والضوء القادم من نافذة كوخ مطل على شاطيء البحر سطوة والوجه
العجوز المتجهم سطوة والمرأة المغدورة سطوة. هذه العناصر وغيرها الكثير هي ما
جعلتني متابعا بصمت ولهفة مكتومة للفيلم الجديد " جنيات إنشرين".
من خلال كوكبة من النجوم الخبراء والصاعدين
أمثال بريندن غليسن , كولين فارل والموهوب الصاعد باري كويغن الذي رأيناه يبدع في
فيلم " قتل الغزال المقدس" إستطاع ماكدونه أن يصنع موائمة بين تقلبات
الشخصيات وعمق القضية وبساطة القصة. وعندما نتحدث عن القصة فقصتنا هنا بسيطة جدا,
إجتماعية حد الثمالة. بادريك سولبيان فلاحٌ إيرلندي بسيط يعاني متلازمة التعلق
بصديقه الوحيد العجوز كولم الذي يتغير
عليه فجأة بين عيشة وضحاها ليصبح كارها للتحدث معه أو وجوده بالقرب منه بعدما كان
يشاطره الجعة والأحاديث كل يوم ليبقى ذلك السؤال الوجودي المحموم في قلب وعقل
بادريك, لماذا يشعر كولم بأنه ممل ؟
قصتنا البسيطة المفعمة بالمشاعر والوجدانيات
تدور في زمن الحرب الأيرلندية الأهلية عام
1923 تحديدا قبيل إنتهاء الحرب الضروس التي استمرت قرابة العام ونصف العام. وحينما
نتحدث عن حدث مأساوي كالحرب نرى كيف جعل ماكدونه وكاتب السيناريو هذا الحدث يكاد لا
يتعدى مساحة كونه حلفية للقصة فقط لكنه يدخل في صلب النسيج الإجتماعي بين أعضاء ساكني
جزيرة إنشرين . لم يفارق دماغي ذلك المشهد حينما يقف بادريك سوليبان على ضفة
الشاطيء وهو يرى ويستمع الى قصف مدافع الحرب دون إكتراث معبرا عن لامبالاته بتلك
الحرب مؤكدا على أن استعادة علاقته بصديقه العجوز أكثر أهمية من مايدور في رحى
الحرب وذلك اسقاط مباشر وذكي لرغبة كاتب السيناريو في تبيان أن اهتمام الشعب
الإيرلندي ببعضه البعض كان من الممكن أن يوقيه شر الحرب , نفس الإسقاط الذي أتى
بشكل مباشر في أحد الحوارات على لسان ساقي الحانة على الجزيرة والذي صرح مباشرة
بأن شعور التواجد في حرب ضد المستعمر الإنجليزي والإيرلنديون يقفون في صف واحد ضد
عددو مشترك أفضل من الشعور في التواجد في حرب اهلية بين ابناء الوطن الواحد. وتسري
القصة متهملة عبر زوايا واسعة تكشف معالم الطبيعة والحياة البطيئة المتمهلة على
الجزيرة دينيا وعمليا بل ويصر المخرج على أن يرينا مفترق الطرق الذي نراه أكثر من ثلاثة مرات بالفيلم
يتوسطه تمثال لمريم العئراء والذي يحدث فيه أول افتراق بين طريقي الشاب بادريك
والعجوز كولم في اشارة واسقاط واضح لماهية التماهي بين مايريده القلب ومايريده
العقل على كافة الأصعدة.
في جزيرة إيرلندية تبدو فيها الأنشطة الإجتماعية
والحضارية محدودة حد الكأبة, هل يمكن أن تكون الطيبة كافية لبقاء الإنسان سعيدا ؟
هل يمكن أن تتحول الطيبة من شعور سامٍ قد يكون متوارثا أو مكتسبا إلى سلاح قاتل
يمكن أن يدمر مسيرة الإنسان؟ يحاول كولم
العجوز إعادة اكتشاف نفسه والصراع النفسي المرير في سبيل هزيمة الزمن والعمل على
تحقيق انجاز ما في حياته قبل موته. حيث يعتقد أن الموت يخطف كل ذاكرة الإنسان
ولايبقي له إلا ما ترك من ارث معرفي. " الموسيقى لا تموت ", هذه كانت
عقيدة وحلم العجوز كولم, الشيء الذي لم
يفهمه الشاب الطيب بادريك سوليبان. لحن واحد يحمل ذات إسم الفيلم دفع من أجله
العجوز كولم تضيحات كثيرة جسدية ونفسيه أدت الى قطع أصابعه الخمسة في طقس احتفالي
سادٍ للوصول الى عظمة إنجاز متمثل في خلق لحن موسيقي جديد يخلد ذكراه قبل أن يموت.
إذن هو صراع مرير ضخم لكنه مكتوم في قلب العجوز كولم الذي لا يود أن يجرح مشاعر
صديقه السابق بادريك يتمخض في شعور بادريك بالخيانة من ترك صديقه له فجأة بحجة
الحاجة لخلق شيء جديد كلحن موسيقي. هل كان الفن وجماليته مهمين بمثابة خبز العيش
أو حليب البقرة الحلوب في ذلك الوقت من الحرب والتعاسة؟
كما أن المرأة الإيلرندية ليست مغيبة في هذا
الفيلم, حيث نرى أخت بادريك " شيفون" وهي تصارع في حقها للبقاء والحلم
في مجتمع ينظر للمرأة بنظرة ضيقة حتى من جانب بنات جنسها النساء. المواضيع الحقوقية
للمرأة في الأفلام الإجتماعية غالبا ماتظهر مباشرة دون تواري أو وجل.شيفون كانت
بمثابة الملاذ الروحي والعلاج المطهر لأفكار بادريك الأثمة عقب الخيانة التي
لاتغتفر من قبل صديقه السابق كولم.ومع وجود شيفون كدواء مطهر, يأتي الموهوب دنكن
"باري كويغن" الشاب المنبوذ من
أبيه ومجتمعه الذي يسعى لتحقيق غرائزه الجنسية كمراهق ليمثل هذا الشاب الصغير دور
الشيطان البريء الذي يطعم عقل بادريك سوليبان بالأفكار والاقتراحات المميتة الغير
مناسبة البتة مع فداحة الموقف. لتنتهي حياة هذا البائس منتحرا بعدما فقد الشعور
بالحب والرغبة فور رفضه من "شيفون".
كخلاصة, فيلمنا يبحث ويتعمق في مسألة الموت
والزمن في قراءة متمهلة جدا تعززها مساحات الطبيعة المحيطة في تصميم إنتاج مبسط
غير متكلف لكنه فعال ومثري وكذلك المكان بل وأجزاء تصل الى المخلوقات بالفيلم
كالحمار ومايحمله من أهمية لبطل القصة ويجعله باعثا لحدث مصيري كان من الممكن أن
يقلب أحداث الفيلم إلى مأساة. فالحيوانات تمثل عامل الزمن والتعلق جزئيا في الفيلم
كما تضفي تلك الشاعرية الإنسانية المتمثلة في تطهير وحدة الإنسان مواساته. كل شيء هاديء
على هذه الجزيرة حتى توقعات الموت المتوقعة , حتى الكبار المغمورين بإرث السلام
والوطنية والحرية. هذا الفيلم يزيد من إعجابي بالمخرج ماكدونه واتقانه الملاحظ في
التحكم بعناصر الزمن وثيمات الموت والحياة عبر أفلامه.
تقييمي الشخصي للفيلم 8.6\10