دعوني أستهل هذه المقالة بإضاءة مصباح صغير
في ركن (شرقي) أوسطي من الغرفة التي نتنفس فيها الحوار ونستنشق الصورة واقول أن
السينما العربية ما تزال تثبت أنها ولادة بالكثير حتى وإن أصرت وبشكل عجائبي – على
مدى تاريخها القصير ربما- أن تخرج القضايا الملعونة مجتمعيا المصنفة في تابوهات
العرب والغرب على حد سواء ولكل إناء ينضح بما فيه ولكل شارب منه إعجاب وإنتقاد.
إنه من المفرح جدا أن نرى العرب- لا سيما عرب المغرب العربي والشام – يتطاولون في
أبنية أكاديمية هوليود بأفلامهم يحملون حقائب القضية والفكرة بحثا عن مطار وجود
مستحق بين فناني الفن السابع. تونس هذه المرة ولأول مرة - تقود العالم العربي في رحلة نحن جميع نعلم
أنها تأتي عبر ولادة متعسرة.
كوثر بن هنية تقود غمار الإنجاز في نسخة هذا
العام من الأوسكار عبر فيلمها الروائي الطويل " الرجل الذي باع ظهره "
في أحدوثة فكرية قامت بشويها شوي ستيك على
نار فنية هادئة تتقلب على فحم الصورة السينمائية.وليس بغريب لمخرجة تاثرت بالمدرسة
السينمائية الفرنسية وخريجة مدرسة لا فيميس الفرنسية للفنون - سيناريو وإخراج – أن
تبجس قنينة القضية لتخرج إلينا بعصارة قوامها الحوار والحدث كتشكيل يتماهى خلف
الفكرة الإستنثائية " أن يبيع أحدهم ظهره ".
برعت كاتبة السيناريو ومخرجة الفيلم في تحويل
قصة عمل فني حي للفنان التشكيلي البلجيكي ويم ديلفوي الذي قام حرفيا برسم إحدى
لوحاته على ظهر رجل سويسري وجعلها تجوب معارض العالم ثم تباع في مزاد علني للفن.
حيث قامت بن هنية بخصخصة القصة ونقلها سينمائيا إلى المشاهد في باعثة للعاطفة
وتجلي روح المعاناة التي يمر بها الإنسان العربي- السوري نموذجا بطبيعة الظرف لا
الحال – وفي خط درامي رئيسي قد يبدو باردا في إداء الممثل لكنه ينقش جمرا أسفل
الأداء. وأجزم هنا أن مشوار الكاتبة والمخرجة مع أفلامها السابقة التي تنوعت بين
الوثائقي والروائي المشحون بالغموض والتركيبة النفسية له دور كبير في هندسة سيناريو
وإخراج فيملها الاخير الذي نتحدث عنه الأن. مرورا بأفلامها الطويلة على غرار
" على كف عفريت" الذي قُدم للترشح للأوسكار عام 2017 لكنه لم يصل إلى
القائمة القصيرة وفيلمها الوثائقي " شلاط تونس" و " زينب تكره
الثلج" و " الإئمة يذهبون إلى المدرسة " إلى أفلامها القصيرة مثل "
يد اللوح " و " بطيخ الشيخ", حرصت بن هنية على تكريس نفسها كمخرجة
قضية تسعى لإظهار المسكوت عنه, الجمالي للصورة السينمائية.
يحكي فيلمنا قصة رجل سوري " سام
علي" يتخذ قرار مصيريا مأساويا غرائبيا بالموافقة على تسليم ظهره كمساحة فنية
لرسام بلجيكي مقابل الحصور على الفرصة للذهاب إلى بلجيكا للقاء حبيبته السورية
التي إضطر إلى فراقها في سوريا والهرب إلى لبنان.تأخذنا القصة في أبعاد مختلفة من
العمق والبساطة والكوميديا السوداء عبر رحلة سام من سوريا التني تنزح تحت وطأة
النظام وتجليات الثورة عام 2011 إلى الملاذ الموعود المحسووم في لبنان ثم إلى أوربا
ارض الأحلام الملعونة التي لا يأتي فيها الشيء بلا مقابل. وعندما نتحدث عن بيع سام لظهره لكي يستغله
الرسام البلجيكي "جيفري" بمعاونة الوسيطة – ولنسمها النخاسة في سوق نخاسة
الفن – " ثريا" التي قامت بدورها الفنانة الشهيرة "مونيكا بولوتشي"
– ولا أتعجب من حصولها على هذا الدور على خلفية فيلمها الظاهرة "
مالينا" , الجمال والإغراء- فنحن
نسقط تدريجيا في حفرة نيتشه, فكرة شبيهة بفكرة مسرحية الدكتور " فاوست"
لكريستوفر مارلو , حيث ان هنالك عقدا روحانيا أثما بين الشيطان " الرسام
جيفري" والضحية التي تهب من روحها في
سبيل الحصول على ما تريد " سام علي". إنه من المؤلم جدا على كافة
مستويات التلقي العاطفي والفكري أن ترى رجلا يباع ويشتري بداعي الفن الذي لا يعترف
بالقيود ويكسر غطرسة القوانين البشرية الجمعية بل ويتحداها ليأخذها معه إلى بقعة
مجهولة. أعجبني جدا التعاطي مع الافكار المشتقة من رحم الفكرة الرئيسة, تلك
الأفكار التي تتعلق بصياغة القوانين الدولية الخاصة بالإتجار بالبشر ولحومهم
وظهورهم ...إلخ مما نتشدق به من قوانين عرضتها المخرجة في ساحة معرض فني عبر حوار
فلسفي يحوي الجلادين والضحية بأحد مشاهد الفيلم.
السؤال الأبرز الذي سيتبادر إلى اذهان جميعنا
, أين هي كرامة الإنسان ؟ إلى أي مدى يمكن أن يكون الإنسان خامة نوعية فنية كوعاء تجربة بجانب كونه سيد الوعاء
والتجربة وممارس فعلي لتطبيقات الفن في حياتنا المليئة بالكثير والعجيب والمخيف فعلا.وفقت المخرجة في تلطيف هذا المبدأ
المرعب المثير للإشمئزاز في قالب عاطفي عبر قصة حب لطيفة مأساوية تلامس المشاعر مزجتها
مع موضوع قضية عربية سياسية لتكتمل الصورة بكافة أطرافها الأربعة أمام أعيننا.
ومع ما صاحب الفيلم من ترهل في بعض الجوانب
الفنية- التي لا ارى داع للغوص في تفاصيلها بالرغم أنها اكسبتني شعورا غير مريح ولا مرضي البتة- وإبداع في جوانب أخرى انتقت المخرجة
كوادرها بمنتهى الجمالية والحرفية التي تحاكي لوحات الفن وتماهيات السينما المستقلة
فيمكنني القول أن تقييمي لهذا الفيلم هو
8.2/10
محبتي
#هيثم_سليمان
@haitham_sulaiman